تـرك ما لا يعنيـك
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، خَلَقَ الإِنْسانَ، وخَصَّهُ بِالنُّطْقِ والبَيانِ، وأَحْصَى عَلَيهِ مَا يُخْفِيهِ ومَا يُبْدِيهِ، ونَهاهُ عَنِ التَّدخُّلِ فِيمَا لاَ يَعْنِيهِ، أَحْمَدُهُ سُبْحانَهُ بِما هُوَ لَهُ أَهلٌ مِنَ الحَمْدِ وأُثْنِي عَلَيْهِ، وأُومِنُ بِهِ وأَتَوكَّلُ عَلَيْهِ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ ومَنْ يُضلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، يُعْطِي مَا يَشاءُ ويَمنَعُهُ ((إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرفَعُهُ))، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، كَانَ صَمتُهُ فِكْراً، ونُطْقُهُ ذِكْراً، ونَظَرُهُ عِبَراً، -صلى الله عليه وسلم- وعَلَى آلِهِ وأَصْحابِهِ ومَنْ تَبِعَهم بإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
تَرْكُ مَا لاَ يَهُمُّ الإِنْسانَ ولاَ يَعنِيهِ تَصَرُّفُ العُقلاَءِ وشَأْنُ النُّبَهاءِ، وخُلُقُ الأَذكِياءِ وحِلْيَةُ الأَولياءِ، فَلاَ عَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذا الخُلُقُ عَلَى حُسْنِ الإِسلاَمِ دَلِيلاً، وإِلَى النَّجاةِ والسَّلاَمَةِ سَبِيلاً، فَعَنْ أَبِي هُريْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ((مِنْ حُسْنِ إِسلاَمِ المَرءِ تَركُهُ مَا لاَ يَعنِيهِ)) وجَاءَ فِي الأَثَرِ: ((عَلَى العَاقِلِ أَنْ يَكُونَ بَصِيراً بِزَمانِهِ، مُقْبِلاً عَلَى شأْنِهِ، حَافِظاً لِلِسَانِهِ، ومَنْ حَسِبَ أَنَّ كَلاَمَهُ مِنْ عَملِهِ قَلَّ كَلاَمُهُ إِلاَّ فِيما يَعنِيهِ))، إِنَّ كَمالَ الإِسلاَمِ والإِيمانِ سَبِيلٌ مُوصِلٌ إِلى الإِحْسانِ، ومَنْ بَلَغَ هَذا المَقامَ راقَبَ اللهَ حَقَّ المُراقَبَةِ، وحَاسَبَ نَفْسَهُ حَقَّ المُحاسَبَةِ، فَإِذا تَكلَّمَ ذَكَرَ أَنَّ اللهَ لَهُ سَمِيعٌ، وإِذا سَكَتَ ذَكَرَ أَنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ، فَتَرَكَ مَا لاَ يَعنِيهِ مِنَ الأَقوالِ والأَفْعالِ، وفَرَّغَ نَفْسَهُ لِما يَهُمُّهُ فِي أُمورِ دِينِهِ ودُنْياهُ، وبِذَلِكَ يَكُونُ مِنَ الأَتْقياءِ، ويَنْدَرِجُ فِي سِلْكِ الأَولياءِ، هَؤلاءِ الذِينَ أَثْنَى اللهُ عَزَّ وجَلَّ عَلَيْهم، بَعْدَ الإِعلاَمِ بِأَنَّهُ سُبْحانَهُ عَلِيمٌ بِالسَّرائِرِ، مُطَّلِعٌ عَلَى كُلِّ مُضْمَرٍ وظَاهِرٍ، يَقُولُ اللهُ سُبْحانَهُ وتَعالَى: ((وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ))
أَيُّها المُؤمِنونَ :
إِنَّ العَاقِلَ هُوَ الذِي يَتَحرَّى قَبْلَ الإِقْدامِ عَلَى القَولِ أَو العَملِ؛ فيُوَجِّهُ السُّؤالَ إِلى نَفْسِهِ: هَلْ هَذا القَولُ أَو هَذا العَملُ يَهُمُّهُ ويَعنِيهِ، فَإِنْ رأَى ذَلِكَ أَقْدَمَ، وإِنْ رأَى غَيْرَ ذَلِكَ امتَنَعَ وأَحْجَمَ، فَمِنَ الأَقوالِ والأَفْعالِ مَا هُوَ ضَروريٌّ، بَلْ مِنْهُ مَا هُوَ طَاعَةٌ وعِبادَةٌ، ومِنْهُ كَذلِكَ مَا هُوَ فَضلٌ وزِيادَةٌ، وصَاحِبُ الوَعْيِ اليَقِظِ والفِكْرِ العَمِيقِ يُخْضِعُ كَلاَمَهُ وعَملَهُ قَبلَ الصُّدورِ لِلْفَحْصِ والتَّحقِيقِ، فَإِذا كَانَ الأَمْرُ يَهُمُّهُ تَكلَّمَ أَو عَمِلَ، مُلاَحِظاً الوَقْتَ المُناسِبَ لِكَلاَمِهِ أَو عَملِهِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتكلَّّمونَ فِي أُمورٍ تَعنِيهم غَيْرَ أَنَّهُم لاَ يَضَعُونَ الكَلِمَةَ مَوضِعَها، ولاَ يَخْتارونَ مَوقِعَها، فيُعابونَ ويُذَمُّونَ، وهَذا عَيْبٌ قَادِحٌ وخَطأٌ فَادِحٌ، فَمَنْ تَدَخَّلَ فِي أَمْرٍ لاَ يَعنِيهِ حَدَثَ حَتْماً مَا يَضُرُّهُ ويُؤذِيهِ، ومَنْ كَثُرَ لَغَطُهُ كَثُرَ غَلَطُهُ، يَقولُ ابنُ عبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهما-: ((خَمْسٌ لَهُنَّ أَحْسَنُ مِنَ الدُّهْمِ المُوقَّـفَةِ -أَي الخَيلِ التِي فِي قَوائِمِها بَياضٌ-: لاَ تَتكلَّمْ فِيما لاَ يَعنِيكَ فَإِنَّهُ فَضْلٌ ولاَ آمِنُ عَلَيكَ الوِزْرَ، ولاَ تَتكلَّمْ فِيما يَعنِيكَ حَتَّى تَجِدَ لَهُ مَوضِعاً؛ فَإِنَّهُ رُبَّ مُتكَلِّمٍ فِي أَمْرٍ يَعنِيهِ قَدَ وَضَعَهُ فِي غَيْرِ مَوضِعِهِ فَعِيبَ، ولاَ تُمارِ حَلِيماً ولاَ سَفِيهاً؛ فَإِنَّ الحَلِيمَ يَقْلِيكَ، وإِنَّ السَّفِيهَ يُؤْذِيكَ، واذْكُرْ أَخاكَ إِذا تَغَيَّبَ عَنْكَ بِما تُحِبُّ أَنْ يَذكُرَكَ بِهِ، وأَعفِهِ مِمّا تُحِبُّ أَنْ يُعفِيَكَ مِنْهُ، واعْمَلْ عَمَلَ رَجُلٍ يَرَى أَنَّهُ مُجازَى بِالإِحْسانِ، مأْخُوذٌ بِالإِجْرامِ)). إِنَّ الذِي يَضْبِطُ نَفْسَهُ حِينَ يُرِيدُ عَملاً أَو يُزمِعُ مَقالاً يأْتِي عَمَلُهُ مُتْقَناً رَشِيداً، وقَولُهُ مُتَّزِناً سَدِيداً، وبِذلِكَ يَصلُحُ عَمَلُهُ ويَتَحقَّقُ أَملُهُ، يَقولُ اللهُ تَعالَى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً))، إِنَّ التَّدخُّلَ فِيما لاَ يَهُمُّ الإِنْسانَ ولاَ يَعنِيهِ رُبَّما يُبعِدُهُ عَنِ الجَنَّةِ ويُقْصِيهِ، فَالأَمْرُ إذاً جِدُّ خَطِيرٍ وشَرٌّ مستَطِيرٌ، وبِقَدْرِ تَنزُّهِ المَرءِ عَنْ هَذا التَّصرُّفِ المَعِيبِ تَكُونُ مَكانَتُهُ ودَرجَتُهُ عِنْدَ اللهِ القَرِيبِ المُجِيبِ، فَعَنْ أَنسِ بنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((تُوفِّيَ رَجُلٌ فَقالَ رَجُلٌ آخَرُ -ورَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَسْمَعُ-: أَبْشِرْ بِالجَنَّةِ، فَقالَ الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم- : أَولاَ تَدْرِي؟ فَلَعلَّهُ تَكلَّمَ فِيما لاَ يَعنِيهِ، أَو بَخِلَ بِما لا يُنقِصُهُ)).
أَيُّها المُسلِمونَ :
إِنَّ تَدخُّلَ المَرءِ فِي شُؤونِ الغَيْرِ تَطَفُّلٌ يَجلِبُ الذَّمَّ ولاَ يأْتِي بِخَيرٍ، خُصوصاً إِذا كَانَ هَذا التَّدَخُّلُ لاَ ضَرورةَ لَهُ ولاَ حَاجَةَ إِلَيْهِ، ويَزدادُ هَذا التَّدَخُّلُ شَناعَةً ويَتدَنَّى وَضاعَةً إَذا كَانَ القَصدُ مِنْ وَرائهِ الإِفْسادَ لاَ الإِصلاَحَ، فَبَعْضُ ضِعافِ النُّفوسِ يَنْتَهِزُونَ فُرصَةَ خِلاَفٍ وشِقاقٍ بَيْنَ زَوْجَيْنِ أَو شَقِيقَيْنِ، أَو قَرِيبَيْنِ أَو صَدِيقَيْنِ، فَيَفْرِضُونَ أَنْفُسَهم عَلَى الطَّرَفَيْنِ، ويَتدخُّلونَ بَينَهما دُونَ دَعْوةٍ، بِقَصْدِ اتِّساعِ هُوَّةِ الخِلاَفِ، وتَضخِيمِ أَسْبابِ الاختِلافِ، فَإِذا بِهِمْ يُعقِّدونَ الأَمْرَ، ويَنفَخونَ فِي الجَمْرِ، وهَذا تَصرُّفٌ صَفِيقٌ، يَقْطَعُ عَلَى الإِصلاَحِ السَّبِيلَ ويَسُدُّ أَمَامَهُ الطَّرِيقَ. لاَ بأَسَ أَنْ يَتَدَخَّلَ المَرءُ حَتَّى دُونَ رَغْبَةِ الطَّرفَيْنِ بِشَرطِ سَلاَمَةِ النِّيَّةِ وحُسْنِ الطَّوِيَّةِ، بلْ هُوَ أَمْرٌ مَطلُوبٌ وعَملٌ مَرغُوبٌ وتَصرُّفٌ مَحْبوبٌ، بلْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ قُربى وعِبادَةٌ، تُحقِّقُ لِلْمُجتَمَعِ الأَمْنَ وتَضَعُهُ عَلَى طَرِيقِ السَّعادَةِ، فَالإِسلاَمُ يُحذِّرُ مِنَ الخُصوماتِ، ويَرَى مَنْعَها مِنْ أَفضلِ القُرُباتِ، فَالخُصومَةُ إِذا استَمرَّتْ ولَمْ تَجِدْ مَنْ يُساهِمُ فِي إِطْفائِها؛ تَدفَعُ بِالخَصْمَينِ إِلى طَمْسِ الفَضائِلِ، وتَضْخِيمِ الرَّذائلِ، بلْ رُبَّما تَدفَعُ إِلى تَلْفِيقِ الأَكاذِيبِ بِقَصدِ التَّشهِيرِ، وقَدْ حَذَّرَ الإِسلاَمُ مِنْ ذَلِكَ أَشَدَّ تَحْذِيرٍ، واعتَبَرَ ذَلِكَ ظُلْماً وبُهتاناً، وبَغْياً وعُدواناً، يَقذِفُ بِصاحِبِهِ إِلى عَذابٍ يَخْلُدُ فِيهِ مُهاناً، يَقولُ اللهُ تَعالَى: ((وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً))، وقَالَ -صلى الله عليه وسلم- : ((أَيُّما رَجُلٌ شَدَّ عَضُدَ امرئٍ مِنَ النَّاسِ فِي خُصُومَةٍ لاَ عِلْمَ لَهُ بِها فَهُوَ فِي سَخَطِ اللهِ حَتَّى يَنزَع،َ وأَيُّمَّا رَجُلٌ أَشَاعَ عَلَى رَجُلٍ مُسلِمٍ كَلِمَةً وهُوَ مِنْها بَريءٌ لِيُشْقِيَهُ بِها فِي الدُّنْيا كَانَ حَقّاً عَلَى اللهِ أَنْ يَرمِيَهِ بِها فِي النَّارِ)) ثُمَّ تَلاَ مِصداقَ ذَلِكَ مِنْ كِتابِ اللهِ تَعالَى: ((إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ))، إِنَّ طُولَ السُّكوتِ عَمَّا لاَ يَهُمُّ الإنسانَ ولاَ يَعنِيهِ يَبلُغُ بِالإِنْسانِ رِفْعَةَ المَكانَةِ وعُلُوَّ الدَّرَجَةِ وسُمُوَّ المَنزِلَةِ، قَالَ رَجُلٌ لِلقمان: مَا بَلغَ بِكَ مَا أَرَى؟ قَالَ: ((صِدْقُ الحَدِيثِ، وطُولُ السُّكوتِ عَمَّا لاَ يَعنِينِي)).
فَاتَّقوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، واعلَموا أَنَّ أَيّامَ الإِنْسانِ ولَيالِيَهُ وأَنفاسَهُ هِيَ رأْسُ مَالِهِ، فَإِنْ صَرفَها فِِيما لاَ يَعنِيهِ أَضَاعَها فِيمَا يُغْضِبُ اللهَ ولاَ يُرضِيهِ، وهَذَهِ جَسارَةٌ، لاَ يَجنِي المَرءُ مِنْ وَرائها سِوَى الخَسارَةِ، أَمَّا مَنْ جَعلَ كُلَّ هَمِّهِ مَا يَعنِيهِ فَقَدْ نَالَ الخَيْرَ الكَثِيرَ والرِّبْحَ الوفِيرَ، ونَظَرَ إِلَيْهِ النَّاسُ بِاحتِرامٍ وتَقْدِيرٍ.
أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
*** *** ***
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
إِنَّ أَكْثَرَ مَا يُرادُ بِتَرْكِ مَا لاَ يَعنِي حِفْظُ اللِّسانِ مِنْ لَغْوِ الكَلاَمِ، فَإِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ يَلفِظُ بِها اللِّسانُ مَحْصِيَّةٌ ومُسَجَّلَةٌ عَلَى الإِنْسانِ، يَقولُ اللهُ تَعالَى: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ))، وعِنْدَما وَصَفَ اللهُ المُؤمِنينَ المُفلِحينَ ذَكَرَ مِنْ أَوصافِهِمْ إِعراضَهُمْ عَنِ اللَّغْوِ، ووَضَعَ هَذا الوَصفَ بَيْنَ فَرِيضتَيْنِ مِنْ فَرائِضِ اللهِ المُحكَمَةِ وهُما الصُّلاَةُ والزَّكاةُ، لِلْدَّلالَةِ عَلَى عَدَمِ انفِصالِ هَذا الوَصفِ عَنِ الإِسلاَمِ وبُنْيانِهِ، وعِمادِهِ وأَركَانِهِ، يَقولُ اللهُ تَعالَى: ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ))، إِنَّ حِفْظَ اللِّسانِ مِمَّا لاَ يَعنِي الإِنْسانَ يُجَنِّبُهُ الكَثِيرَ مِنَ الآثامِ، ويَدفَعُ عَنْهُ الضَّرَرَ، ويَقِيهِ مِنْ مَواطِنِ الخَطَرِ، بِهِ يَسلَمُ مِنَ العَطَبِ والزَّلَلِ، ويَنْجُو مِنَ الزَّيْغِ والخَلَلِ، وبِهذا يَسلُكُ طَرِيقَ النَّجاةِ، وخِلاَفُ ذَلِكَ شُرودٌ وتَخَبُّطٌ فِي كُلِّ اتِّجاهٍ، فَعَنْ عُقبةَ بِنِ عَامرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسولَ اللهِ مَا النَّجاةُ؟ قَالَ: ((امْسِكْ عَلَيكَ لِسانَكَ، ولْيَسَعْكَ بَيتُكَ، وابكِ عَلَى خَطِيئتِكَ)). إِنَّهُ لَيسَ أَسلَمُ لِدِينِ المَرءِ وإِيمانِهِ مِنْ حُسْنِ كَلاَمِهِ وحِفْظِ لِسانِهِ؛ فَفُضولُ الكَلاَمِ زِيادَةٌ لاَ مَعنَى لَها، ولاَ طَائِلَ مِنْ وَرائِها، لِذَلِكَ كَانَ لاَ خيْرَ فِيها، بلِ الخَيْرُ فِي تَجَنُّبِها وتَوقِّيها، يَقولُ اللهُ تَعالَى: ((لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً))، وقَدَ جَاءَ فِي الأَثَرِ: ((طُوبَى لِمَنْ عَمِلَ بِعِلْمِهِ، وأَنْفَقَ الفَضلَ مِنْ مَالِهِ، وأَمْسَكَ الفَضلَ مِنْ قَولِهِ))، إِنَّ لِسانَ حَالِ الإِنسانِ العَاقِلِ يَقولُ:((أُصمتُ فأَسلَمُ، وأَسْمَعُ فأُعلَمُ))، وقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبدِاللهِ بنِ مَسعودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ ارتَقَى الصَّفا فأَخَذَ بِلِسَانِهِ فَقالَ: يَا لِسانُ قُلْ خَيْراً تَغْنَمْ، واسكُتْ عَنِ الشَّرِّ تَسلَمْ مِنْ قَبلِ أَنْ تَنْدَمَ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقولُ: ((أَكْثَرُ خَطأِ ابنِ آدمَ فِي لِسانِهِ))، وجَاءَ فِي أَثَرٍ عَنْ عِيسى -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- قَولُهُ: ((لاَ تُكْثِروا الكَلاَمَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللهِ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُم، فَإِنَّ القَلْبَ القَاسِي بَعِيدٌ مِنَ اللهِ، ولاَ تَنظُروا فِي ذُنوبِ النَّاسِ وانظُروا فِي عُيوبِكُم؛ فَإِنَّ النَّاسَ مُبتلىً ومُعافَى، فارحَموا أَهلَ البَلاَءِ واحمدوا اللهَ عَلَى العَافِيَةِ)).
فَاتَّقوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، واعلَموا أَنَّ مِنْ طَاعَةِ اللهِ الكَبِيرِ المُتعالِ، تَرْكَ مَا لاَ يَعنِي مِنَ الأَقوالِ والأَفعالِ.
هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: (( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا ))
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
****************************
تعليق