الحـج أجـر وثـواب
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسلَه بالحقِّ بشيرًا ونذيرًا بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئا.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبينا محمد وآله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد؛
خرج الحاجُّ المتوكلُ على ربه، المخلص في عمله، المتبع لسنة نبيه ، خرج من بيته قاصدا الحجَّ إلى بيت الله الحرام، ليؤديَ الفريضةَ لهذا العام، خرجَ بعد أن قضى ديونَه، وصالحَ خصومه، تاركا عند الأهل والعيال، شيئا من الزاد والمال، يكفيهم إلى رجوعه وعودته، بعد أداء فريضته وعبادته، كاتبًا وصيتَه، إن كان عنده ما يوصِي به، مودِّعًا أهلَه وأولادَه وجيرانَه، وأصدقاءَه وأحبابَه وخِلاَّنَه، قائلا: «أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكُمْ وَأَمَانَتَكُمْ وَخَوَاتِيمَ أَعْمَالِكُمْ».
بَكتِ الزوجةُ من ألم الفراق، وصاحَ الأولادُ من شدة الاشتياق، وبعد التقبيل والعناق؛ حمل زاده ومتاعه، وركب راحلته، أو استقلَّ سيارته أو طائرته، قائلا: «بِسْمِ اللَّهِ»، فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ» ثلاثا، وكبر ثلاثا..
ثُمَّ قَالَ: «سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا، وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ، اللهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنَ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى، اللهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا، وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ، اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ، وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ وَالْأَهْلِ».
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجُيُوشُهُ إِذَا عَلَوْا الثَّنَايَا كَبَّرُوا، وَإِذَا هَبَطُوا سَبَّحُوا
يكبِّر على كلِّ مرتفعٍ وشرف، ويسبِّح عند كل سهلٍ ومنخفض.
آملاً أن يُكتَبَ له بطيِّ الأرضِ حسنات، وراجيًا أن تُمحَى عنه بذلك السيئات، فلا تقطعُ السيارةُ أو الطائرةُ مرحلة إلا أُجِر وأثيب، وغُفر عنه عددا لا بأس به من الذنوب، لما ثبت عنه : «فَإِنَّ لَكَ مِنَ الْأَجْرِ إِذَا أَمَمْتَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ أَلَا تَرْفَعَ قَدَمًا أَوْ تَضَعَهَا أَنْتَ ودَابَّتُكَ إِلَّا كُتِبَتْ لَكَ حَسَنَةٌ، وَرُفِعَتْ لَكَ دَرَجَةٌ،..».
إنه حاج محبٌّ لمن معه من صحبته، وإخوانه في رفقته، مطيعا لمن تولَّى إمرتَه، يعين بما قدَر واستطاع، ويساعد بالباع والذراع، إن خاصمه أحدٌ أو رفع صوته عليه، فشعاره قول الله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}. (البقرة: 197)، وقول رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَجَّ هَذَا البَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ».
إذا تكلَّم واعظُه ومرشدُه، أصغى إليه، بقلبه وأُذُنيه وعينيه، وكُلَّما استطاع منه اقترب، ويستفسر عما يجهله بأدب.
فإذا وصل هذا الحاجُّ إلى الميقات بسلام، بدأ بالاستحداد، وقصِّ الأظافر والاستحمام، ويتطيبُ بالعطور والطيب، ويلبس ملابس الإحرام، ويصلي فريضةً أو سنةَ وضوء أو تحيةَ مسجد، ولا صلاة للإحرام، فإذا ركب راحلتَه وتوجهت به إلى البيت الحرام، نوى بقلبه، عن نفسه أو عن غيره، ويعيِّن نُسُكَه فيقول: (لبيك عمرة متمتعا بها إلى الحج)، ويبدأ بتَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ". ويكرر هذه التلبية ولا يقطعها إلا إذا وصل مكة، ورأى المسجد الحرام والكعبة، واستلم الحجر لما ورد عن ابن عباس موقوفا عليه.
وكلَّما تغيرت عليه الأحوال لبَّى، وكلما ركب أو نزل، أو قعد أو قام لبّى، أو دخل قرية أو خرج منها لبّى، ويرفع الرجال أصواتهم وتخفض النساء.
ويجوز للمحرم أكلُ الطيبات، وشربُ المشروباتِ المباحات، والنومُ والاغتسال، وغَسلُ الثيابِ وتغييرُها، وحكُّ الرأسِ والجلد، ولبسُ الساعة واستخدامُ المظلة، والالتحافُ بالبطَّانيَّةِ أو اللحاف، كما يجوز له وضعُ الحزام من قماش أو جلد مخيطٍ على جسمه أو غيرِ مخيط، لحفظِ أوراقهِ ودراهمه.
لكن لا يغطي رأسه لا بقلنسوةٍ ولا عمامة، ولا حَطَّةٍ ولا منديلٍ ولا غترة، ولا يلبس فانيلةً أو ثوبا فيدخل يديه فيها، ولا سراويلاتٍ طويلةً أو قصيرةً فيدخل رجليه فيها.
هذا كلُّه بعد الإحرام فلا يتعطّرُ ولا يتطيب، ولا يتعرض لصيدٍ ولا قتل وحوش إلا لضرورة شرعية.
وصل الحاجُّ مكَّةَ المكرمة، بعد أن أحرمَ من الميقات أو في الطائرة، وتوجَّهَ إلى منزله ومسكنه، واطمأنَّ على أمتعتِه وزاده، وقضى حاجتَه واغتسل، وتفقد ثيابه إن احتاجت إلى تغيير أو غسل فعل، وتناول طعامه، واستراح بنوم أو نحوه، ثم احتفظ بالعنوان، ليرجع بعد أداء عمرته، إلى منزله ومسكنه.
خرج الحاج مع رفقته الكرام، إلى بيت الله الحرام، ودخل المسجدَ بادئا برجله اليمنى قائلا، ولأصحابه معلما: «بِسْمِ اللَّهِ، وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ». «أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ، مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ».
فلما وقع بصره على الكعبة التي هي للمسلمين القبلة، بدأ بالطواف، وتوجَّه مباشرة إلى جهة الحجر الأسود الذي في الجهة الشرقية الشمالية من الكعبة، فلما وصل إليه قبَّله ووضع جبهته عليه، إن استطاع، وإلاَّ؛ استلمه بيده وقبَّلها، أو استلَمه بمِحجَنِه وقبَّل المحجن، أو أشار إليه من بعيد دون تقبيل، قائلا: بسم الله والله أكبر. انظر حجة النبي للألباني
ومن هنا يبدأ الطواف جاعلاً الكعبةَ عن يساره، مضطبعاً؛ أي كاشفاً الرداءَ عن كتفه الأيمن، في الأشواط السبعة، راملاً؛ أي يمشي مشيا مسرعا مع تقارب الخطى في الثلاثة الأولى، فإذا وصل الركنَ اليماني مشى قائلا: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.
فإذا وصل الحجرَ الأسود كرَّر ما فعله في الشوط الأول، وهكذا في كل شوط، وفي خلال ذلك يكون الدعاءُ والذكرُ وتلاوة القرآن، والكلام المباح إن احتاج إليه.
ثم يتخذ من مقام إبراهيم مصلى كما أمره الله تعالى، تاليا قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (البقرة: 125) فيصلي ركعتين، يقرأ في الأولى بعد الفاتحة: {قل يا أيها الكافرون}، وفي الثانية بعد الفاتحة: {قل هو الله أحد}، وليتذكر أثناء طوافه إبراهيم وإسماعيل اللذين بنيا هذا البيت، وأن الحجر الأسود والمقام من حجارة الجنة، ولولا مَسُّ أيدي المشركين لها لطغى نورهما على ضوء الشمس، فقد قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرُّكْنَ، =أي الحجر الأسود= وَالمَقَامَ يَاقُوتَتَانِ مِنْ يَاقُوتِ الجَنَّةِ، طَمَسَ اللَّهُ نُورَهُمَا، وَلَوْ لَمْ يَطْمِسْ نُورَهُمَا لَأَضَاءَتَا مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ».
وليتذكر ثوابه في ذلك كله، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "وَأَمَّا رَكْعَتَاكَ بَعْدَ الطَّوَافِ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ،..".
والحاجُّ بعد ذلك [إذا فرغ من الصلاة ذهب إلى زمزم، فشرب منها، وصبَّ على رأسه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "مَاءُ زَمْزَمَ، لِمَا شُرِبَ لَهُ"، وقال: «إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ، وَهِيَ طَعَامُ طُعْمٍ، وَشِفَاءُ سُقْمٍ».
وقال: "خَيْرُ مَاءٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَاءُ زَمْزَمَ، وَفِيهِ طَعَامٌ مِنَ الطُّعْمِ، وَشِفَاءٌ مِنَ السُّقْمِ،.."].
إنَّ الحاجَّ قد أنهى –الآن- ركنين من أركان العمرة؛ الأول الإحرام، والثاني الطواف بالبيت سبعة أشواط، وبقي الركن الثالث وهو السعي بين جبلي الصفا والمروة، فيتجه إلى الصفا تاليا قول الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}. ويقول: "نبدأ بما بدأ الله به".
فإذا استقرَّ على الصفا [يستقبل الكعبة، فيوحد الله ويكبره فيقول: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر،... لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده". يقول ذلك ثلاث مرات. ويدعو بين ذلك]. مناسك الحج والعمرة
ثم ينزل قاصدا المروة؛ ذاكرا داعيا تاليا لكتاب الله، فإذا وصل الميلين الأخضرين هَرْوَلَ وأسرعَ الخطى بينهما، ثم يمشي حتى يصعد المروة، فيكبِّر ويهلل ويدعو، كما فعل على الصفا وهذا شوط، ثم يفعل في الشوط الثاني ما فعل في الأول إلى أن يصل الصفا، وهكذا الشوط الثالث إلى السابع الذي ينتهي على المروة، فيقصِّر من جميع شعر رأسه، أو يحلقه، وبهذا ينتهي الإحرام وتنتهي العمرة، فيلبس ملابسه الاعتيادية، متمنيا على الله الثواب العظيم مما سعاه بين الصفا والمروة، لقوله : "وَأَمَّا طَوَافُكَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ بَعْدَ ذَلِكَ كَعِتْقِ سَبْعِينَ رَقَبَةً،..".
ويرجع إلى مسكنه بمكة حسب العنوان الذي احتفظ به، ويبقى كذلك متمتعا إلى يوم التروية.
يومُ التروية هو اليوم الثامن من ذي الحجة، تبدأ أعمالُ الحجِّ، ففي ضحى هذا اليوم يدخل الحاجُّ حمَّامَه ومغتسلَه، فيزيل شعرَ عانتِه، ويقلم أظافره، ويجزُّ شاربَه، ويتطيبُ ويلبسُ ملابسَ إحرامه، ويحرم من منزله بمكة، كما فعل عند إحرامه من الميقات، ناويًا بقلبه، قائلاً بلسانه: (لبيك اللهم حجًّا فتقبله من ويسره لي، لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)، ويكرر إلى أن يرمي الجمرة الكبرى يوم العيد.
ويتوجه مع جماعته ورفقته إلى منى، ليؤديَ أوَّلَ سُنَّةٍ من سنن الحج، ألا وهي المبيت بها، إن تمكن، ويصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء، مع قصر الرباعية دون جمع بين الصلوات، ثم يصلي الفجر من اليوم التاسع من ذي الحجة، كلٌّ في وقتها، ويبقى في منى إلى أن يرتفع الضحى، إن تمكن من ذلك، وإلاّ؛ فيتوجه إلى عرفة مباشرة، فيصلي بعرفة الظهر والعصر جمع تقديم، مع قصر الصلاة ركعتين ركعتين، ويبقى في عرفة داعيًا ذاكرًا، تاليًا للقرآن، مصليًا على النبي ، إلى أن تغرب الشمس تماما، راجيا الإخلاصَ في العمل، والثوابَ من الرحمن الرحيم، لقوله : "وَأَمَّا وُقُوفُكَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَهْبِطُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِي بِكُمُ الْمَلائِكَةَ يَقُولُ: عِبَادِي جَاءُونِي شُعْثًا مِنْ كِلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، يَرْجُونَ رَحْمَتِي، فَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُكُمْ كَعَدَدِ الرَّمْلِ، أَوْ كَقَطْرِ الْمَطَرِ، أَوْ كَزَبَدِ الْبَحْرِ لَغَفَرَهَا، أَوْ لَغَفَرْتُهَا، أَفِيضُوا عِبَادِي مَغْفُورًا لَكُمْ، وَلِمَنْ شَفَعْتُمْ لَهُ،..".
وبعد التيقن من غروب الشمس يتوجَّه الحاجُّ ومن معه إلى مزدلفة، فيصلي بها المغرب والعشاء جمعا بينهما، مع قصر العشاء ركعتين، ثم صلاة الوتر، والمبيت بها حتى يصليَ الفجر من يوم العيد، اليوم العاشر من ذي الحجة، إن تمكن من ذلك، ثم ينطلق إلى منى فيرمي جمرة العقبة الكبرى بسبع حصيات، وذلك بعد طلوع الشمس إلى الليل، ويقف عندها ويدعو، ثم يذبح هديه، ويحلق رأسه، ففي ذلك أجر كبير، وغفران للذنوب عظيم، لقوله : ".. وَأَمَّا رَمْيُكَ الْجِمَارِ؛ فَلَكَ بِكُلِّ حَصَاةٍ رَمَيْتَهَا كَبِيرَةٌ مِنَ الْمُوبِقَاتِ، وَأَمَّا نَحْرُكَ؛ فَمَذْخُورٌ لَكَ عِنْدَ رَبِّكَ، وَأَمَّا حِلاقُكَ رَأْسِكَ؛ فَلَكَ بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَلَقْتَهَا حَسَنَةٌ وَيُمْحَى عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةٌ..".
وينزع ملابس الإحرام، ويلبس ملابسه، ويكون قد تحلل التحلل الأصغر، ولكن لا يحل له النساء.
وهو الآن مخيَّر بين أن يطوف طواف الإفاضة ويسعى بين الصفا والمروة، وبهذا يكون حاجُّنا قد تحلل التحلل الأكبر، فيحل له كل شيء حتى النساء، أو يؤخر ذلك إلى أي يوم من أيام ذي الحجة.
وبهذا يكون قد أنهى أركان الحج الأربعة وهي؛ الإحرام يوم التروية أو بعده، والوقوف بعرفة ليلا أو نهارا، ثم الطواف والسعي.
وبهذا تكون الذنوب قد غفرت، والسيئات قد محيت، لقوله : ".. وَأَمَّا طَوَافُكَ بِالْبَيْتِ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّكَ تَطُوفُ، ولاَ ذَنْبَ لَكَ، يَأْتِي مَلَكٌ حَتَّى يَضَعَ يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْكَ فَيَقُولُ: اعْمَلْ فِيمَا تَسْتَقْبِلُ فَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا مَضَى".
وإلاّ؛ فكيف يتحقق قوله : «مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»؟!
وتوبوا إلى الله واستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
*** الخطبة الثانية ***
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى من اهتدى بهداه، إلى يوم الدين وبعد؛
بقي من الواجبات المبيتُ بمنى ليالي التشريق، ورمي الجمرات الثلاث، وذلك بعد الزوال وسط النهار من اليوم الحادي عشر من ذي الحجة إلى الليل؛ الصغرى بسبع حصيات ويقف عندها ويدعو، ثم الوسطى بسبعٍ أخرى ويقف عندها ويدعو، ثم الكبرى التي رجمت بالأمس، ترمى اليوم بسبعٍ أخرى ولا يقف عندها ولا يدعو، بل ينصرف إلى منزله، وكذلك في ثاني أيام التشريق، على أن يغادر منى قبل غروب الشمس لمن أراد التعجل.
فإن غربت وهو بمنى يضطر للبقاء في منى إلى أن يرمي الجمرات الثلاث في اليوم الثالث من أيام التشريق، كما رماهنَّ في اليومين السابقين.
وعندما غادر الحاج منى ذهب إلى مسكنه بمكة، فاستراح قليلا، وفكر في العودة إلى من ودَّعهم من أهله وجيرانِه، وأصحابِه وإخوانِه، وبعد أن دعا لهم في مكةَ ومنىً وعرفات، تذكَّر أن يُدخِلَ عليهم السرورَ، بهديَّة رمزيَّة، تُذكِّر بالأيام الطيِّبَةِ المرْضِيَّة، فاشترى هدايا مكونةً من مسواكٍ وطاقية، أو ثوبٍ أو منديلٍ وغترةٍ وزجاجةٍ عطريَّة، أو لُعبةٍ لصبيٍّ أو صبيَّة، أو تميراتٍ من المدينة النبويَّة، أو خيرٌ من ذلك كلِّه مصحف، وقارورةٌ من ماءِ زمزمَ المغلّف.
وقبل الخروج من مكةَ راجعًا إلى موطنه أو زائرا إلى جدة؛ لا ينسى حاجُّنا أن يطوفَ طوافَ الوداعِ، سبعةَ أشواط، دونَ رَمَلٍ أو اضطباع، بعدها يخرج مباشرة من مكة، لا يؤخِّرُه إلا حزمُ أمتعته، وركوبُه في حافلته.
ويرغبُ حاجُّنا في زيارة المدينة المنورة، ليصليَ في المسجد النبوي وقُباء، لينال من الله الأجرَ والثناء، وقد تحققت رغبتُه؛ فصلى في المسجدين، وصلى وسلم على الحبيب محمد ، وسلم على صاحبيه، وأخويه ووزيريه، أبي بكر الصديق، وعمرَ الفاروق، وزار البقيعَ وشهداءَ أحد، وألقى عليهم التحية، ودعا لهم قائلا: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ لَلَاحِقُونَ، أَسْأَلُ اللهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ".
وذهب ليرى مسجد القبلتين، ولم يصلِّ تطوعا فيه، لعدمِ الفضيلةِ على غيرِه، كما في المسجدين. فإنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى".
وقد «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا» .. «فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ». . ولم يذكر أيَّ مسجد آخر، في المدينة ولا في غيرها، فحاجُّنا يريد السُّنَّةَ ليتَّبِعَها، لتَلقَى حَجَّتُه وزيارتُه القبولَ والرضا عند الله الرحمن الرحيم.
وعندما علم حاجُّنا بحديث عن المدينة: «لَا يَصْبِرُ أَحَدٌ عَلَى لَأْوَائِهَا، فَيَمُوتَ، إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا -أَوْ شَهِيدًا- يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا». تمنى أن يبقى بها ليموت فيها؛ فينال شفاعةَ النبي وشهادتَه.
ولكن؛ لكل أجل كتاب، استعجله مسئوله، وناداه مناديه، ليؤذنَه بالرحيل، بعد أيام قضاها بالمدينة بين مسكنه والمسجد النبوي من أحلا الأيام وأجملها، أحدثت في القلب انبساطا، وفي الصدر انشراحا، وفي الوجه بشاشة، وفي الجسم رشاقة، استعذب فيها الألم، ونسي التعب والمشقة والهمّ.
ودَّعَ المدينةَ بآخرِ صلاةٍ له فيها، تترقرقُ بالدموع عيناه، وخَفَقَ فؤادُه على ألمٍ فراق الحبيب الخليل محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى الأمل والرجاء في الله، سبحانه جلَّ في علاه، أن يعود مرات ومرات، انطلقت به راحلته، فلما استوى عليها جالسا [كَبَّرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: «سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا، وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ، اللهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنَ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى، اللهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا، وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ، اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ، وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ وَالْأَهْلِ»،... «آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ».
ووصل إلى المطار حيث تنتظره ناقلته، فوُزِنت أمتعته، وبعد الإجراءات المعتادة، أقلعت طائرته، تمخُر عُبابَ الهواء، بين الأرض والسماء، وهو يدعو الله ويذكرُه، وعلى نعمِه يحمَدُه ويشكُرُه، قائلا ما قاله رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كَانَ إِذَا قَفَلَ مِنْ غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنَ الأَرْضِ ثَلاَثَ تَكْبِيرَاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ: «لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ». وهذا الذكر يكرر أثناء الطريق حتى يصل إلى بلده وموطنه.
«اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ عِيشَةً تَقِيَّةً، وَمِيتَةً سَوِيَّةً، وَمَرَدًّا غَيْرَ مُخْزٍ وَلا فاضِحٍ.
اللَّهُمَّ لا تُهْلِكْنَا فَجْأَةً، وَلا تَأْخُذْنَا بَغْتَةً، وَلا تُعْجِلْنَا عَنْ حَقٍّ وَلا وَصِيَّةٍ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْعَفَافَ وَالْغِنَى، وَالتُّقَى وَالْهُدَى، وَحُسْنَ عَاقِبَةِ الآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّكِّ وَالشِّقَاقِ، وَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ فِي دِينِكَ، يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ».
{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}.
*************************************
خطبة اليوم من إلقاء فضيلة الشيخ : فؤاد أبو سعيد
تعليق