منصة زاجل الإجتماعية

تقليص

مختارات من خطب الجمعة

تقليص
هذا موضوع مثبت
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • سُلاف
    مشرفة المواضيع الإسلامية
    من مؤسسين الموقع
    • Mar 2009
    • 10535



    الحـج أجـر وثـواب



    الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسلَه بالحقِّ بشيرًا ونذيرًا بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئا.

    {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}.
    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.

    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}.

    اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبينا محمد وآله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد؛

    خرج الحاجُّ المتوكلُ على ربه، المخلص في عمله، المتبع لسنة نبيه ، خرج من بيته قاصدا الحجَّ إلى بيت الله الحرام، ليؤديَ الفريضةَ لهذا العام، خرجَ بعد أن قضى ديونَه، وصالحَ خصومه، تاركا عند الأهل والعيال، شيئا من الزاد والمال، يكفيهم إلى رجوعه وعودته، بعد أداء فريضته وعبادته، كاتبًا وصيتَه، إن كان عنده ما يوصِي به، مودِّعًا أهلَه وأولادَه وجيرانَه، وأصدقاءَه وأحبابَه وخِلاَّنَه، قائلا: «أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكُمْ وَأَمَانَتَكُمْ وَخَوَاتِيمَ أَعْمَالِكُمْ».



    بَكتِ الزوجةُ من ألم الفراق، وصاحَ الأولادُ من شدة الاشتياق، وبعد التقبيل والعناق؛ حمل زاده ومتاعه، وركب راحلته، أو استقلَّ سيارته أو طائرته، قائلا: «بِسْمِ اللَّهِ»، فَلَمَّا اسْتَوَى عَلَى ظَهْرِهَا قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ» ثلاثا، وكبر ثلاثا..
    ثُمَّ قَالَ: «سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا، وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ، اللهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنَ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى، اللهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا، وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ، اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ، وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ وَالْأَهْلِ».
    وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجُيُوشُهُ إِذَا عَلَوْا الثَّنَايَا كَبَّرُوا، وَإِذَا هَبَطُوا سَبَّحُوا
    يكبِّر على كلِّ مرتفعٍ وشرف، ويسبِّح عند كل سهلٍ ومنخفض.



    آملاً أن يُكتَبَ له بطيِّ الأرضِ حسنات، وراجيًا أن تُمحَى عنه بذلك السيئات، فلا تقطعُ السيارةُ أو الطائرةُ مرحلة إلا أُجِر وأثيب، وغُفر عنه عددا لا بأس به من الذنوب، لما ثبت عنه : «فَإِنَّ لَكَ مِنَ الْأَجْرِ إِذَا أَمَمْتَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ أَلَا تَرْفَعَ قَدَمًا أَوْ تَضَعَهَا أَنْتَ ودَابَّتُكَ إِلَّا كُتِبَتْ لَكَ حَسَنَةٌ، وَرُفِعَتْ لَكَ دَرَجَةٌ،..».



    إنه حاج محبٌّ لمن معه من صحبته، وإخوانه في رفقته، مطيعا لمن تولَّى إمرتَه، يعين بما قدَر واستطاع، ويساعد بالباع والذراع، إن خاصمه أحدٌ أو رفع صوته عليه، فشعاره قول الله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}. (البقرة: 197)، وقول رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَجَّ هَذَا البَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ».



    إذا تكلَّم واعظُه ومرشدُه، أصغى إليه، بقلبه وأُذُنيه وعينيه، وكُلَّما استطاع منه اقترب، ويستفسر عما يجهله بأدب.



    فإذا وصل هذا الحاجُّ إلى الميقات بسلام، بدأ بالاستحداد، وقصِّ الأظافر والاستحمام، ويتطيبُ بالعطور والطيب، ويلبس ملابس الإحرام، ويصلي فريضةً أو سنةَ وضوء أو تحيةَ مسجد، ولا صلاة للإحرام، فإذا ركب راحلتَه وتوجهت به إلى البيت الحرام، نوى بقلبه، عن نفسه أو عن غيره، ويعيِّن نُسُكَه فيقول: (لبيك عمرة متمتعا بها إلى الحج)، ويبدأ بتَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ". ويكرر هذه التلبية ولا يقطعها إلا إذا وصل مكة، ورأى المسجد الحرام والكعبة، واستلم الحجر لما ورد عن ابن عباس موقوفا عليه.



    وكلَّما تغيرت عليه الأحوال لبَّى، وكلما ركب أو نزل، أو قعد أو قام لبّى، أو دخل قرية أو خرج منها لبّى، ويرفع الرجال أصواتهم وتخفض النساء.



    ويجوز للمحرم أكلُ الطيبات، وشربُ المشروباتِ المباحات، والنومُ والاغتسال، وغَسلُ الثيابِ وتغييرُها، وحكُّ الرأسِ والجلد، ولبسُ الساعة واستخدامُ المظلة، والالتحافُ بالبطَّانيَّةِ أو اللحاف، كما يجوز له وضعُ الحزام من قماش أو جلد مخيطٍ على جسمه أو غيرِ مخيط، لحفظِ أوراقهِ ودراهمه.



    لكن لا يغطي رأسه لا بقلنسوةٍ ولا عمامة، ولا حَطَّةٍ ولا منديلٍ ولا غترة، ولا يلبس فانيلةً أو ثوبا فيدخل يديه فيها، ولا سراويلاتٍ طويلةً أو قصيرةً فيدخل رجليه فيها.



    هذا كلُّه بعد الإحرام فلا يتعطّرُ ولا يتطيب، ولا يتعرض لصيدٍ ولا قتل وحوش إلا لضرورة شرعية.



    وصل الحاجُّ مكَّةَ المكرمة، بعد أن أحرمَ من الميقات أو في الطائرة، وتوجَّهَ إلى منزله ومسكنه، واطمأنَّ على أمتعتِه وزاده، وقضى حاجتَه واغتسل، وتفقد ثيابه إن احتاجت إلى تغيير أو غسل فعل، وتناول طعامه، واستراح بنوم أو نحوه، ثم احتفظ بالعنوان، ليرجع بعد أداء عمرته، إلى منزله ومسكنه.



    خرج الحاج مع رفقته الكرام، إلى بيت الله الحرام، ودخل المسجدَ بادئا برجله اليمنى قائلا، ولأصحابه معلما: «بِسْمِ اللَّهِ، وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ». «أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ، مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ».



    فلما وقع بصره على الكعبة التي هي للمسلمين القبلة، بدأ بالطواف، وتوجَّه مباشرة إلى جهة الحجر الأسود الذي في الجهة الشرقية الشمالية من الكعبة، فلما وصل إليه قبَّله ووضع جبهته عليه، إن استطاع، وإلاَّ؛ استلمه بيده وقبَّلها، أو استلَمه بمِحجَنِه وقبَّل المحجن، أو أشار إليه من بعيد دون تقبيل، قائلا: بسم الله والله أكبر. انظر حجة النبي للألباني



    ومن هنا يبدأ الطواف جاعلاً الكعبةَ عن يساره، مضطبعاً؛ أي كاشفاً الرداءَ عن كتفه الأيمن، في الأشواط السبعة، راملاً؛ أي يمشي مشيا مسرعا مع تقارب الخطى في الثلاثة الأولى، فإذا وصل الركنَ اليماني مشى قائلا: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.


    فإذا وصل الحجرَ الأسود كرَّر ما فعله في الشوط الأول، وهكذا في كل شوط، وفي خلال ذلك يكون الدعاءُ والذكرُ وتلاوة القرآن، والكلام المباح إن احتاج إليه.



    ثم يتخذ من مقام إبراهيم مصلى كما أمره الله تعالى، تاليا قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (البقرة: 125) فيصلي ركعتين، يقرأ في الأولى بعد الفاتحة: {قل يا أيها الكافرون}، وفي الثانية بعد الفاتحة: {قل هو الله أحد}، وليتذكر أثناء طوافه إبراهيم وإسماعيل اللذين بنيا هذا البيت، وأن الحجر الأسود والمقام من حجارة الجنة، ولولا مَسُّ أيدي المشركين لها لطغى نورهما على ضوء الشمس، فقد قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الرُّكْنَ، =أي الحجر الأسود= وَالمَقَامَ يَاقُوتَتَانِ مِنْ يَاقُوتِ الجَنَّةِ، طَمَسَ اللَّهُ نُورَهُمَا، وَلَوْ لَمْ يَطْمِسْ نُورَهُمَا لَأَضَاءَتَا مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ».



    وليتذكر ثوابه في ذلك كله، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "وَأَمَّا رَكْعَتَاكَ بَعْدَ الطَّوَافِ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ،..".


    والحاجُّ بعد ذلك [إذا فرغ من الصلاة ذهب إلى زمزم، فشرب منها، وصبَّ على رأسه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "مَاءُ زَمْزَمَ، لِمَا شُرِبَ لَهُ"، وقال: «إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ، وَهِيَ طَعَامُ طُعْمٍ، وَشِفَاءُ سُقْمٍ».

    وقال: "خَيْرُ مَاءٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَاءُ زَمْزَمَ، وَفِيهِ طَعَامٌ مِنَ الطُّعْمِ، وَشِفَاءٌ مِنَ السُّقْمِ،.."].


    إنَّ الحاجَّ قد أنهى –الآن- ركنين من أركان العمرة؛ الأول الإحرام، والثاني الطواف بالبيت سبعة أشواط، وبقي الركن الثالث وهو السعي بين جبلي الصفا والمروة، فيتجه إلى الصفا تاليا قول الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}. ويقول: "نبدأ بما بدأ الله به".



    فإذا استقرَّ على الصفا [يستقبل الكعبة، فيوحد الله ويكبره فيقول: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر،... لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده". يقول ذلك ثلاث مرات. ويدعو بين ذلك]. مناسك الحج والعمرة


    ثم ينزل قاصدا المروة؛ ذاكرا داعيا تاليا لكتاب الله، فإذا وصل الميلين الأخضرين هَرْوَلَ وأسرعَ الخطى بينهما، ثم يمشي حتى يصعد المروة، فيكبِّر ويهلل ويدعو، كما فعل على الصفا وهذا شوط، ثم يفعل في الشوط الثاني ما فعل في الأول إلى أن يصل الصفا، وهكذا الشوط الثالث إلى السابع الذي ينتهي على المروة، فيقصِّر من جميع شعر رأسه، أو يحلقه، وبهذا ينتهي الإحرام وتنتهي العمرة، فيلبس ملابسه الاعتيادية، متمنيا على الله الثواب العظيم مما سعاه بين الصفا والمروة، لقوله : "وَأَمَّا طَوَافُكَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ بَعْدَ ذَلِكَ كَعِتْقِ سَبْعِينَ رَقَبَةً،..".


    ويرجع إلى مسكنه بمكة حسب العنوان الذي احتفظ به، ويبقى كذلك متمتعا إلى يوم التروية.



    يومُ التروية هو اليوم الثامن من ذي الحجة، تبدأ أعمالُ الحجِّ، ففي ضحى هذا اليوم يدخل الحاجُّ حمَّامَه ومغتسلَه، فيزيل شعرَ عانتِه، ويقلم أظافره، ويجزُّ شاربَه، ويتطيبُ ويلبسُ ملابسَ إحرامه، ويحرم من منزله بمكة، كما فعل عند إحرامه من الميقات، ناويًا بقلبه، قائلاً بلسانه: (لبيك اللهم حجًّا فتقبله من ويسره لي، لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)، ويكرر إلى أن يرمي الجمرة الكبرى يوم العيد.



    ويتوجه مع جماعته ورفقته إلى منى، ليؤديَ أوَّلَ سُنَّةٍ من سنن الحج، ألا وهي المبيت بها، إن تمكن، ويصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء، مع قصر الرباعية دون جمع بين الصلوات، ثم يصلي الفجر من اليوم التاسع من ذي الحجة، كلٌّ في وقتها، ويبقى في منى إلى أن يرتفع الضحى، إن تمكن من ذلك، وإلاّ؛ فيتوجه إلى عرفة مباشرة، فيصلي بعرفة الظهر والعصر جمع تقديم، مع قصر الصلاة ركعتين ركعتين، ويبقى في عرفة داعيًا ذاكرًا، تاليًا للقرآن، مصليًا على النبي ، إلى أن تغرب الشمس تماما، راجيا الإخلاصَ في العمل، والثوابَ من الرحمن الرحيم، لقوله : "وَأَمَّا وُقُوفُكَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَهْبِطُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِي بِكُمُ الْمَلائِكَةَ يَقُولُ: عِبَادِي جَاءُونِي شُعْثًا مِنْ كِلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، يَرْجُونَ رَحْمَتِي، فَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُكُمْ كَعَدَدِ الرَّمْلِ، أَوْ كَقَطْرِ الْمَطَرِ، أَوْ كَزَبَدِ الْبَحْرِ لَغَفَرَهَا، أَوْ لَغَفَرْتُهَا، أَفِيضُوا عِبَادِي مَغْفُورًا لَكُمْ، وَلِمَنْ شَفَعْتُمْ لَهُ،..".



    وبعد التيقن من غروب الشمس يتوجَّه الحاجُّ ومن معه إلى مزدلفة، فيصلي بها المغرب والعشاء جمعا بينهما، مع قصر العشاء ركعتين، ثم صلاة الوتر، والمبيت بها حتى يصليَ الفجر من يوم العيد، اليوم العاشر من ذي الحجة، إن تمكن من ذلك، ثم ينطلق إلى منى فيرمي جمرة العقبة الكبرى بسبع حصيات، وذلك بعد طلوع الشمس إلى الليل، ويقف عندها ويدعو، ثم يذبح هديه، ويحلق رأسه، ففي ذلك أجر كبير، وغفران للذنوب عظيم، لقوله : ".. وَأَمَّا رَمْيُكَ الْجِمَارِ؛ فَلَكَ بِكُلِّ حَصَاةٍ رَمَيْتَهَا كَبِيرَةٌ مِنَ الْمُوبِقَاتِ، وَأَمَّا نَحْرُكَ؛ فَمَذْخُورٌ لَكَ عِنْدَ رَبِّكَ، وَأَمَّا حِلاقُكَ رَأْسِكَ؛ فَلَكَ بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَلَقْتَهَا حَسَنَةٌ وَيُمْحَى عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةٌ..".

    وينزع ملابس الإحرام، ويلبس ملابسه، ويكون قد تحلل التحلل الأصغر، ولكن لا يحل له النساء.



    وهو الآن مخيَّر بين أن يطوف طواف الإفاضة ويسعى بين الصفا والمروة، وبهذا يكون حاجُّنا قد تحلل التحلل الأكبر، فيحل له كل شيء حتى النساء، أو يؤخر ذلك إلى أي يوم من أيام ذي الحجة.



    وبهذا يكون قد أنهى أركان الحج الأربعة وهي؛ الإحرام يوم التروية أو بعده، والوقوف بعرفة ليلا أو نهارا، ثم الطواف والسعي.

    وبهذا تكون الذنوب قد غفرت، والسيئات قد محيت، لقوله : ".. وَأَمَّا طَوَافُكَ بِالْبَيْتِ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّكَ تَطُوفُ، ولاَ ذَنْبَ لَكَ، يَأْتِي مَلَكٌ حَتَّى يَضَعَ يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْكَ فَيَقُولُ: اعْمَلْ فِيمَا تَسْتَقْبِلُ فَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا مَضَى".

    وإلاّ؛ فكيف يتحقق قوله : «مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»؟!

    وتوبوا إلى الله واستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.



    *** الخطبة الثانية ***

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى من اهتدى بهداه، إلى يوم الدين وبعد؛

    بقي من الواجبات المبيتُ بمنى ليالي التشريق، ورمي الجمرات الثلاث، وذلك بعد الزوال وسط النهار من اليوم الحادي عشر من ذي الحجة إلى الليل؛ الصغرى بسبع حصيات ويقف عندها ويدعو، ثم الوسطى بسبعٍ أخرى ويقف عندها ويدعو، ثم الكبرى التي رجمت بالأمس، ترمى اليوم بسبعٍ أخرى ولا يقف عندها ولا يدعو، بل ينصرف إلى منزله، وكذلك في ثاني أيام التشريق، على أن يغادر منى قبل غروب الشمس لمن أراد التعجل.



    فإن غربت وهو بمنى يضطر للبقاء في منى إلى أن يرمي الجمرات الثلاث في اليوم الثالث من أيام التشريق، كما رماهنَّ في اليومين السابقين.



    وعندما غادر الحاج منى ذهب إلى مسكنه بمكة، فاستراح قليلا، وفكر في العودة إلى من ودَّعهم من أهله وجيرانِه، وأصحابِه وإخوانِه، وبعد أن دعا لهم في مكةَ ومنىً وعرفات، تذكَّر أن يُدخِلَ عليهم السرورَ، بهديَّة رمزيَّة، تُذكِّر بالأيام الطيِّبَةِ المرْضِيَّة، فاشترى هدايا مكونةً من مسواكٍ وطاقية، أو ثوبٍ أو منديلٍ وغترةٍ وزجاجةٍ عطريَّة، أو لُعبةٍ لصبيٍّ أو صبيَّة، أو تميراتٍ من المدينة النبويَّة، أو خيرٌ من ذلك كلِّه مصحف، وقارورةٌ من ماءِ زمزمَ المغلّف.



    وقبل الخروج من مكةَ راجعًا إلى موطنه أو زائرا إلى جدة؛ لا ينسى حاجُّنا أن يطوفَ طوافَ الوداعِ، سبعةَ أشواط، دونَ رَمَلٍ أو اضطباع، بعدها يخرج مباشرة من مكة، لا يؤخِّرُه إلا حزمُ أمتعته، وركوبُه في حافلته.



    ويرغبُ حاجُّنا في زيارة المدينة المنورة، ليصليَ في المسجد النبوي وقُباء، لينال من الله الأجرَ والثناء، وقد تحققت رغبتُه؛ فصلى في المسجدين، وصلى وسلم على الحبيب محمد ، وسلم على صاحبيه، وأخويه ووزيريه، أبي بكر الصديق، وعمرَ الفاروق، وزار البقيعَ وشهداءَ أحد، وألقى عليهم التحية، ودعا لهم قائلا: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ لَلَاحِقُونَ، أَسْأَلُ اللهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ".

    وذهب ليرى مسجد القبلتين، ولم يصلِّ تطوعا فيه، لعدمِ الفضيلةِ على غيرِه، كما في المسجدين. فإنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى".
    وقد «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا» .. «فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ». . ولم يذكر أيَّ مسجد آخر، في المدينة ولا في غيرها، فحاجُّنا يريد السُّنَّةَ ليتَّبِعَها، لتَلقَى حَجَّتُه وزيارتُه القبولَ والرضا عند الله الرحمن الرحيم.



    وعندما علم حاجُّنا بحديث عن المدينة: «لَا يَصْبِرُ أَحَدٌ عَلَى لَأْوَائِهَا، فَيَمُوتَ، إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا -أَوْ شَهِيدًا- يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا». تمنى أن يبقى بها ليموت فيها؛ فينال شفاعةَ النبي وشهادتَه.

    ولكن؛ لكل أجل كتاب، استعجله مسئوله، وناداه مناديه، ليؤذنَه بالرحيل، بعد أيام قضاها بالمدينة بين مسكنه والمسجد النبوي من أحلا الأيام وأجملها، أحدثت في القلب انبساطا، وفي الصدر انشراحا، وفي الوجه بشاشة، وفي الجسم رشاقة، استعذب فيها الألم، ونسي التعب والمشقة والهمّ.

    ودَّعَ المدينةَ بآخرِ صلاةٍ له فيها، تترقرقُ بالدموع عيناه، وخَفَقَ فؤادُه على ألمٍ فراق الحبيب الخليل محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى الأمل والرجاء في الله، سبحانه جلَّ في علاه، أن يعود مرات ومرات، انطلقت به راحلته، فلما استوى عليها جالسا [كَبَّرَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: «سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا، وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ، اللهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنَ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى، اللهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا، وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ، اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ، وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ وَالْأَهْلِ»،... «آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ».



    ووصل إلى المطار حيث تنتظره ناقلته، فوُزِنت أمتعته، وبعد الإجراءات المعتادة، أقلعت طائرته، تمخُر عُبابَ الهواء، بين الأرض والسماء، وهو يدعو الله ويذكرُه، وعلى نعمِه يحمَدُه ويشكُرُه، قائلا ما قاله رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كَانَ إِذَا قَفَلَ مِنْ غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنَ الأَرْضِ ثَلاَثَ تَكْبِيرَاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ: «لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ». وهذا الذكر يكرر أثناء الطريق حتى يصل إلى بلده وموطنه.



    «اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ عِيشَةً تَقِيَّةً، وَمِيتَةً سَوِيَّةً، وَمَرَدًّا غَيْرَ مُخْزٍ وَلا فاضِحٍ.

    اللَّهُمَّ لا تُهْلِكْنَا فَجْأَةً، وَلا تَأْخُذْنَا بَغْتَةً، وَلا تُعْجِلْنَا عَنْ حَقٍّ وَلا وَصِيَّةٍ.

    اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْعَفَافَ وَالْغِنَى، وَالتُّقَى وَالْهُدَى، وَحُسْنَ عَاقِبَةِ الآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّكِّ وَالشِّقَاقِ، وَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ فِي دِينِكَ، يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ».

    {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}.



    *************************************


    خطبة اليوم من إلقاء فضيلة الشيخ : فؤاد أبو سعيد




    تعليق

    • سُلاف
      مشرفة المواضيع الإسلامية
      من مؤسسين الموقع
      • Mar 2009
      • 10535


      حقيقة السعادة



      إِنَّ الحَمْدَ للهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لهُ.
      وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ -وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ-.
      وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
      (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
      (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
      (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
      أَمَّا بَعْدُ:
      فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ تعَالَى، وَخيرَ الهَدْيِ<الهَدْي: السيرة والهيئة والطريقة.> هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة, وكل بدعةٍ ضلالة.
      ثم أما بعد:
      عباد الله لو نظرنا إلى جميع الخلق الذين يسيرون على هذه الأرض لرأينا أن جميعهم يتفقون على أمر واحد، يتفقون أنهم يطلبون ويسعون في تحقيق السعادة، بمعنى أن الكل من بني الإنسان يسعى في جلب السعادة لنفسه، ورغم هذا نرى أن السعادة ما حصلها إلا القليل، فإن غالب الناس قد اختلفت فهومهم في أمر السعادة، فالبعض يرى أن السعادة في المال فيجمع المال ولا يحقق السعادة، والبعض ينال المناصب والمنازل حتى وصل إلى أعلى الدرجات ولا يحصل السعادة، والبعض يسير خلف الشهوات كالبهيمة أو كالعجموات ظنًا أنه يحصل السعادة وما حصل السعادة.

      فلو سألنا صاحب المال أأنت سعيد؟ الجواب لا، فإن سعد يومًا شقي أيامًا، وكذلك أصحاب الجاه والمناصب، وكذلك أصحاب الشهوات.
      والسعادة جعلها الله في باب واحد، جعلها ربنا تبارك وتعالى في باب الرضى عن الله، فمن رضى عن الله عز وجل أرضاه ورضاه، جعله إن كان فقيرًا فهو أسعد الناس، وإن كان غنيًا فهو أسعد الناس، إن كان صحيحًا سليمًا فهو أسعد الناس، وإن كان مريضًا عليلًا فهو أسعد الناس، لا يشعر بشقوة قط، لماذا؟ لأنه رضي عن الله.
      ولذلك منازل السعادة تدور على أمرين عظيمين جدًا.
      المنزل الأول: الرضى عن الله.
      والمنزل الثاني: الصبر.
      قد ترى غنيًا قد افتقر، وترى فقيرًا قد وصل إلى أعلى مراتب الغنى، قد ترى إنسانًا صعلوكًا صار ملكًا، وقد ترى الملك صار صعلوكًا، الدنيا ليس منازل علو ولا منزل رفعة، والإنسان بطبعه ضعيف {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا } والهلع من أمرين عظيمين، {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا } يخاف من الفقر والضيق والشدة، وإن فتح الله عليه باب خير {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا }. فإن كان في ضيق يشتكي، وإن ملك مال قاون يمنع ويخاف من الفقر {إِلَّا الْمُصَلِّينَ }.
      أي من عرف الله عز وجل، ومن رضي عن الله تبارك وتعالى، فالسعادة رضًا عن الله عز وجل « عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ ».
      ومن ثم ترى السعيد هو الذي يقف أمام أمر الله تبارك وتعالى، ولذلك قالوا بأن السعادة هي تحقيق أمر الله عز وجل فيما تحب وفيما تكره.
      إن بعض من حرموا السعادة الظاهرة، بمعنى حرموا المال ربما يسعون في جلب المال من الحرام، لأنه يظن أن السعادة في المال، وبعض من حرم الصحة في بدنه ربما يطلبها بأسباب ربما لا يصل إليها، ظنًا أن السعادة في هذا.
      ومن ثم كانت السعادة في أمر خفي غاب عن كثير من الناس، كما ذكرنا الرضي عن الله عز وجل، ونظرًا لضعف الإنسان فإن الله تبارك وتعالى ما تركه سدى، هو ضعيف هو عاجز، أرسل إليه الرسل أبانوا له الطريق، وعرفوه كيف يستمتع بهذه الحياة، وكيف يجعل الدنيا مطية إلى الجنة {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا}.
      كل من خالف أمر الله عز وجل فهو في ضنك، كثير من الناس يلهث خلف الملك، والمناصب لتحصيل الجاه، بل إن المال يبذل من أجل المنصب والجاه، ويصل، هل حقق السعادة؟.
      ما نعلم في التاريخ قط أحدًا نال ملكًا أعظم من ملك فرعون، أين الملوك في جانب فرعون الذي عبد قومه له {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}. كانوا يسجدون للملك، كانوا صمًا بكمًا عميًا لا يرون إلا ما يقول فرعون {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}. كان هو الذي يأمر والذي ينهى، لا يرون أمرًا إلا أمر فرعون، ورغم هذا جره ملكه إلى الهاوية {فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}. وكان آية يتندر بها البشر، وعلى الرغم من هذا لا يعتبر به أحد.
      المال، من جمع كقارون؟ قارون ما أعلم أحدًا منذ بدء الخليقة وربما إلى قيام الساعة سيجمع ما جمع قارون {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ}. المفاتيح الجماعة من البشر لا يستطيعون حملها، المفاتيح للأبواب، فكيف بما هو خلف الأبواب؟! خرج على قومه في زينته، العقول انبهرت بمشهد قاورن دون رؤية ماله، فخسف الله به وبداره، فذهب ماله وصار عبرة.
      فالعاقل من عرف الطريق إلى الله عز وجل، ختم الله الرسالات برسالة نبينا محمد صلي الله عليه وعلى آله وسلم عاش على شدة من العيش وهو راضي، كان يمر الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين ولا يوقد نار، وكان راضي، وكان يستعيذ من الفقر، بمقايسنا نحن وأي فقر أشد من هذا، إن الفقر هو عدم الرضى عن الله عز وجل.
      قد ترى في بيتك لحمًا وإدامًا وأطعمةً كثيرة وأنت غير راضي عن الله، قلبك في الغد وبعد الغد وبعد الغد، قد يكون عند من المال ما عندك وتفكر ما بعد المال، أي ما بعد انتهاء المال.
      فكان النبي صلى الله عليه وسلم بيت النبوة الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة، وكان يقول صلى الله عليه وسلم ما أحب أن أبيت ليلتي وفي بيتي دينارًا أو درهمًا إلا أنفقته في سبيل الله.
      الرضي عن الله عز وجل يعطيك السعادة، يعطيك اليقين أنك عبد لله عز وجل، وأنه يجري فيك ما قدره بضعفك وعجزك وعدم حولك وعدم قوتك وطولك.
      ربنا عز وجل هو الذي يعطيك، هو الذي يمنعك، إن أعطاك فبفضله، وإن منعك فلعلة، كم من أقوام ابتلاهم الله بالفقر وهم أخيار؟ كم من الأنبياء قتلهم الفقر كانوا لا يجدون العباءة يلبسونها، أوذوا أعظم إيذاء وهم أنبياء، فالابتلاء ليس معرة وليس بعيب، ولكن أراد الله عز وجل لهم الرفعة، فمن ثم أعلى قدرهم ورفع شأنهم.
      فالنبي صلى الله عليه وسلم ربى أصحابه، في وقت الاستضعاف النفوس تحب التمكين، تحب الظهور، تحب العلو، تعذيب وطحن، تمزيق لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في عقر دارهم، مِنْ مَنْ؟ من أهلهم وذويهم، تضييق وتعذيب وشدة، وهم صابرون ماضون محتسبون، يتمنى أحدهم دعوة لرفع ما بهم من ضر، فيغضب النبي صلي الله عليه وعلى آله وسلم.
      إن الطريق لا يحتاج منك إلى أمر في الدنيا تكون منه على يقين، التمكين قد يأتي وقد لا يأتي، السعادة في الدنيا قد تأتي وقد لا تأتي، إنما السعادة أن ترضى عن الله عز وجل وأن تكون صادق الرضى حتى يرضى الله عز وجل عنك.
      ما بشر أحدًا منهم بمنصب ولا بمنزل من منازل الدنيا، بشرهم بالجنة قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « أَبُو بَكْرٍ فِى الْجَنَّةِ وَعُمَرُ فِى الْجَنَّةِ وَعُثْمَانُ فِى الْجَنَّةِ وَعَلِىٌّ فِى الْجَنَّةِ ..... ». بشر كثيرًا من أصحابه، بل بشروا جميعًا على الإجمال، وما بشر واحدًا منهم بمنصب في الدنيا، ما قال يومًا يا أبا بكر ستكون خليفة للمسلمين، ما قال يا عمر ستكون أميرًا على المؤمنين، ما ذكر لهم ذلك البتة، إلا تعريضًا، كما ورد بإسناد فيه مقال أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقع خلاف بينه وبين زوجه حفصة فبشرها بملك أبيها، فأسرت، ووقع خلاف بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين حفصة أنها أفشت هذا السر.
      فأمر الدنيا عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان عرض ما كان هدفًا، كان غاية للوصول إلى طاعة الله عز وجل والرضى عن الله تبارك وتعالى.
      أيها الحبيب إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانت سعادتهم في الإعطاء لا في الأخذ، بذلوا النفس فما دونها لله، وما طلبوا مقابل النفس شيئًا قط، في يوم بدر رجل يسمع نداء النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، سارعوا إلى جنة عرضها السموات والأرض، يقول بخ بخ، هذا كلام عجيب، يتعجب جنة عرضها السموات والأرض، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم ما حملك على هذا، فيقول والله ما قلت هذا إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال أنت من أهلها، كان في يده تمرات يتقوى بها، ألقي بتمراته وهو يقول ما أطول عمرًا أن أتم هذه التمرات.
      كان عندهم العطاء لله عز وجل فأعطاهم الله عز وجل أعظم مما أعطوا، ماذا أعطوا؟ أعطوا النفس التي هي ملك لله عز وجل، فعوضهم الله عز وجل الخلود في الجنة، أعطوا المال الذي هو ملك لله عز وجل فأعطهم الله عز وجل النعيم الأبدي في الجنة، قصور ملك {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا }.
      ماذا أعطيت يا عبد الله؟ هم أعطوا فأعطهم الله عز وجل الخلد في الجنة، ونحن نطلب قَلَّ من يعطي، حينما نرى صحابيًا جليلًا في مرة قرأ القرآن قرأ قول الله عز وجل ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) -[نظر ماذا يعطي ما كان يعطي الدون، ما كان يعطي الحقير مما عنده، نظر في أعلى وأفضل ما عنده فنظر فإذا له بستان عظيم قبالة المسجد النبوي]- جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِى كِتَابِهِ ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِى إِلَىَّ بِيرُحَاءَ [بستان ببئر]- قَالَ وَكَانَتْ حَدِيقَةً كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدْخُلُهَا وَيَسْتَظِلُّ بِهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا - فَهِىَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - أَرْجُو بِرَّهُ وَذُخْرَهُ ، فَضَعْهَا أَىْ رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « بَخْ يَا أَبَا طَلْحَةَ ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ [هو هذا الربح ما عندكم ينفد وما عند الله باق] ، قَبِلْنَاهُ مِنْكَ وَرَدَدْنَاهُ عَلَيْكَ ، فَاجْعَلْهُ فِى الأَقْرَبِينَ » . فَتَصَدَّقَ بِهِ أَبُو طَلْحَةَ عَلَى ذَوِى رَحِمِهِ.
      سبقه الصديق لما كان جيش العسرة يستعد للخروج إلى الروم، حث النبي صلى الله عليه وسلم على النفقة تصدق أبو بكر بماله كله، ما أبقي شيئًا.
      النفوس ضعيفة جبلت على حب الدنيا، ولكن منازعتك لها بينها وبين الآخرة يعطيك دفعة أن تعمل لله عز وجل، أن تعطي لله عز وجل، أن تمنع لله عز وجل، هذا هو الطريق، أن ترضى عن قسم الله لك، وإن أعطيت أن تعلم أن الله عز وجل سيجزيك أضعاف ما أعطيت وما تملك أنت.
      الرضا أن ترضى عن قسم الله فيك أعظم باب لمنعك من الحرم، من ولغ في الحرام وغرق في الحرام غش وخادع وكذب على المسلمين، أخذ المال من حله وحرامه، ما استطاع أن يعطي لأنه يحب أن يأخذ، ما الذي حمله على هذا؟ ما رضي عن الله عز وجل، ما عرف طعم الرضا في الرخاء وفي الشدة.
      أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عاشوا على شدة من العيش، لما فتحت عليهم الدنيا من الحلال ظنوا أن هذه فتنة، وأن هذا بلاء، جلس عبد الرحمن بن عوف يومًا لطعام الإفطار كان صائمًا، ليفطر على وقت المغرب، فقعد ابن عوف والطعام أمامه ينتظر أذان المغرب، فرأى ألوانًا وأصنافًا من الطعام، ابن عوف ملك ما ملك وجمع ما جمع من حلال، كان إن وضع يده في التراب صار تبرًا، كان تاجرًا ماهرًا وفق في تجارته، فنظر إلى الطعام فهيجه الطعام ما كان، هيجه زمن القلة، وزمن الفقر، وزمن العوز وقلة الطعام، حينما كانوا يأكلون كسر الخبز وحفن الشعير والتمر الرديء -دقل التمر- فذكر مصعب بن عمير قال كان خيرًا مني، قتل مصعب وكان خيرًا مني، مات مصعب شهيدًا فما وجد ما يكفن فيه إلا شملة -شيء يوضع على البدن- إن وضع على رأسه بدت رجلاه، وإن وضع على رجليه بدى رأسه، فوضعت على رأسه ووضع الأذخر -حشيش- ليتم غطائه بما بقي من قدمية ومن ساقيه، ثم ذكر حمزة قتل حمزة وكان خير مني، ثم هيجه ما كان، ما مضى، كانوا يحنون إلى الماضي إلى القلة إلى قلة العيش، إلى قلة الانشغال بهذه الدنيا، فقال ارفعوا طعامكم أرى أنه مكر بنا أو أرى أن الدنيا قد فتحت لنا على سبيل البلاء.
      فأيها الحبيب كلنا يبحث عن السعادة، كلنا يفكر في السعادة لا في طعام وجدنا السعادة، لا في مال وجدنا السعادة، لا في نساء وجدنا السعادة، لا في ملك وجدنا السعادة، السعادة أن ترضى عن الله عز وجل، وأن يرضي الله عنك.
      إذا عجزت عن منزلة الرضا، صعب أن تعطي أصعب ما يكون، لأن نفسك دنية تدفعك إلى الأخذ فكيف ترضى بالسلب، هناك منزلة آخرى ليس بعدها منزلة الصبر، أن تبتلى فتكون رجلًا، إن سلب منك المال فاحمد الله، إن قل عندك المال فاحمد الله، إن وجدت من نفسك قلة فاحمد الله، لماذا؟ صبر، اصبر، ستتقلى على الجمر في سير في هذه الحياة، صبر نفسك، إن لم تهيج قلبك بذكر الجنة فخوف نفسك بذكر النار، حرمت المال، حرمت الدنيا، وجدت المرض قد أكل بدنك، ماذا أفعل؟ الصبر أن تصبر أن تمني نفسك بما عند الله عز وجل الجنة، فإن لم تهيجك الجنة، صار أمر الجنة عندك مألوف فالنار.
      أتدرون من المفلس يوم القيامة؟ فقال الصحابة جميعًا المفلس فينا من ليس له دينار ولا درهم، قال لا، ليس هذا إفلاس، الإفلاس أن تخرج من الدنيا بلا دين، أن تأتي وقد أكلت مال هذا، وشتمت هذا، وسلبت هذا، وقطعت هذا، يأخذ من حسناتك على حسنات الآخر، فإن نفدت حسناتك أخذت من سيئات الآخر فطرحت على سيئاتك ثم ألقي بالعبد إلى النار، نار وقودها الناس والحجارة، ليس لها وقود إلا أبدان بني آدم، هذا من أعظم المشاهد الذي يحيل بينك وبين الحرام.
      أين قلبك؟ سعادتك أن تكون مع الله عز وجل، نبينا صلى الله عليه وسلم كان يدخل البيت إن وجد طعامًا أكل، وإن لم يجد طعامًا يقول إني صائم، رضى عن الله عز وجل، ما نازعته نفسه يومًا شيئًا، إلا إن جاء شيئًا من حلال، كان يحب من الشاة الذراع، كم مرة أكل من الذراع وهو يحب هذا، فليس كل ما تحب تجد، وإن وجدت فليس على الدوام، لأن الدنيا مرحلة، لحظة، فإن سابقتك أقعدتك، وإن سبقتها دخلت الجنة.
      عودوا إلى ربكم واستغفروه ......

      الخطبة الثانية


      الحمد لله رب العلمين،والعاقبة للمتقين،ولا عدوان إلا على الظالمين،وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له،وأشهد أن محمد عبده ورسوله.
      منزلة الرضى عن الله عز وجل عند السراء وعند الضراء، عند ما تتمنى وعند ما لا تتمنى، تولى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الملك، ونالوا الإمارة، فحكموا بشرع الله عز وجل، وما خالفوا.
      أبو بكر الصديق ملك، وجنوده على تخوم فارس والروم، فلما كان على فراش الموت جمع بناته وأبنائه وأحفاده، ثم قال لهم إني قد أخذت من بيت مال المسلمين على سبيل الراتب، لأن الصديق رضي الله عنه في يوم ولايته خليفة للمسلمين خرج إلى السوق ليتاجر، وكان تاجرًا ماهرًا كان من أشهر تجار العرب في مكة، خرج ليمارس مهنته، فخرج المسلمون خلفه وقالوا يا خليفة رسول الله ماذا تفعل؟ قال تجارتي الذي أنفق منها على نفسي وعيالي، قالوا أقعد ونكفيك، أنت خليفة للمسلمين، فوافق على هذا خشية الضيعة للمسلمين، فجلس عامين وكسور، طعام الصديق كان من قبل يوسع على نفسه بتجارته وماله، صار الآن يأكل براتب عمله للمسلمين، فكان يأخذ القليل، كسر الخبز وحفن الشعير، إلى أن كان على الفراش، منذ أن تولى إلى أن خرج من الدنيا ما غير ثوبه رضي الله عنه، فجمع أولاده وأحفاده ثم قال إني قد أخذت من مال المسلمين ما يقارب كذا، وإن أرضي التي بخيبر تزيد على هذا، أي أن الأمر ليس بالتقريب بل تزيد، فادعوا لي عمر ليجعلها في بيت مال المسلمين في مقابل أعطياتي على العمل، وخرج من الدنيا بلا أجر لعمله للمسلمين.
      وتابعه على هذا عمر، كان عمر يحرم بيته وذويه من اللحم، رأى يومًا لحمًا مع عبد الله بن عمر فقال ما هذا يا بني؟ قال لحمًا قرمناه -اشتهيناه- فقال أكلما اشتهت نفسك شيئًا أكلته، فغضب، فمنع ابن عمر أن يأكل شيئًا حتى قتل عمر رضي الله عنه.
      رأى شياه ترعى في واد، فسأل لمن هذه؟ فقالوا هذه لأحد أبنائك، فقال سبحان الله أبلغ بأبنائي هذا، وكان هذا في أرض قحطاء صحراء ليس فيها إلا القليل من العشب، بعيدة ليست لأحد، فنادى ابنه وقال يا بني ما الذي حملك على هذا؟ قال يا أمير المؤمنين هذه أرض ليست ملكًا لأحد -كلأ مباح- قال نعم يأتي فلان فيرى غنيمات ابن أمير المؤمنين فيقول ابتعدوا عن هذا المكان، ويأتي فلان فيرى غنيمات لابن أمير المؤمنين فيقول ابتعدوا عن هذا المكان، فصرت ملكًا في هذا المكان، اقسم هذه الغنيمات بينك وبين بيت مال المسلمين ولا تعد لهذا.
      هذا عمر، عمر الذي ثيابة مرقعة وهو أمير المؤمنين ما هي العلة؟ ما هو السبب رجا السعادة، طلب السعادة.
      أيها الحبيب الدنيا والآخرة ضرتان، لن ترضى إحدهما إلا بمغاضبة الآخرى، إحفظ هذا جيدًا، لن تجمع بين الدنيا وبين الآخرة، من غررك بهذا أحمق، بل الدنيا أكثر زخرفة وزينة، الدنيا غرارة غدارة تمنيك.
      إنني لأعرف رجلًا كان مريضًا ظل في مرضه من السنين ولا يصلي، يا هذا ستموت، يهز رأسه كأن الأمر لا يعنيه ومات قاطعًا للصلاة، جسده يموت رويدًا رويدًا وهو يعلم أنه من الدنيا خارج، وظل على هذا إلى أن خرج من الدنيا بلا صلاة.
      حياتك أيها الحبيب مرهونة برضاك عن الله عز وجل، دنيا حقيرة كم من أقوام في ستر في هذه الدنيا لا يعلم بهم أحد وهم يشتكون ولا يشتكون، أذكر مرة كنت دائمًا أرى امرأة عجوز بعد صلاة الفجر تبحث في القمامة، فسألتها يا أماه ماذا تفعلين؟ تبحث كأنها تبحث عن شيء، وهذا في كل يوم، ما تفعلين يا أماه؟ قالت أبحث عن بعض الخبز عندي دجاجات وبطات أطعمها هذه الكسر،فرق قلبي فقلت لها يا أماه من أنت؟ وأين مكانك؟ ما اسمك؟ فصرخت في وقالت يا ابني سِبْنِي في حالي، واختفت.
      هذه الدنيا سترى هناك في ستر وفي رضا عن الله عز وجل، قد تكون هذه المرأة تجمع هذه الكسر لتربي دجاجات أو بطات لتبيعها في السوق لتعيش، وقد تكون راضية عن هذا، وبعض الناس في رغد من العيش ولا يرضى عن عيشه.
      يذكر أن رجلًا من الأثرياء في يوم بارد شاتي رجع من عمله من الليل فمر فإذا برجل على رصيف ملقى، فظن أنه ميت توقف فإذا بدخان يصعد من فمه وأنفه، فرق له فنزل من السيارة ارتعد من البرد وأعطاه بعض المال بجواره، الرجل نائم، بعض المال بجواره أو في جيبه ثم عاد إلى السيارة وذهب إلى البيت يرتعد، دخل على زوجه يرتجف، ما بك؟ قال البرد البرد البرد، ولكن الذي أهمني أنني رأيت رجلًا ملقي في عرض الطريق بثياب بسيطة لا تكفيه هذا البرد نائم بلا غطاء، والدخان يصعد من فمه وأنفه، فضحكت زوجه وقال يا هذا إن أشفقت أشفق على نفسم هو نائم وأنت مستيقظ ترتعد، وعندك كل الإمكانيات.
      أيها الحبيب الدنيا مزرعة، والآخرة هي دار الحصاد، ضع الآخرة نصب عينيك، كان من سبق يقولون نحن في لذة لو عرف بها الملوك لقاتلونا عليها، لذة الرضى، أن ترضى عن الله عز وجل في قسمه لك، أن ترضى عن الله عز وجل في أعطياته لك، قسم الله عز وجل لك أعظم من قسمك، وأعظم من اختيارك، كم عطلت من صلاة؟ كم شغلت قلبك بأمور من الدنيا عن الآخرة؟ كم ظللت مكبلًا عن الله عز وجل تحت مسميات الظروف المعاش الحياة إلى آخره؟ أي حياة هذه؟! حياتك الكريمة أن تكون مع الله عز وجل وتصبر، عما قليل ستخرج، إما بعز أو بذل، بعز أنك مع الله عز وجل، أنك تقي نقي، أنك راضي عن الله عز وجل لا يعرف بك أحد.
      رجل كان في وظيفة كان يقترض مني كل شهر في يوم 25/20 حوالي جنيهان وكان في يوم الثالث من الشهر يأتي ويرد لي الجنيهان، بعد فترة حاولت أن أعطيه شيئًا فقعد بعد أن أعطني الجنيهان أردت أن أعطيه شيئًا، فقال أنا ما جئت إليك إلا لأني أعلم أنك تستر حالي، ووالله لن أعود إليك مرة آخرى، وما رأيته بعدها قط وكان عنده إحدى عشرة من الولد، عاش في ستر، وجد بابًا للدين من يوم عشرين أو بعد العشرين إلى يوم 3/2 في الشهر وراضي عن حاله لا يسأل أحدًا أبدًا، إنما لجأ إلى غريب حتى يستره.
      هذه الدنيا بسيطة، مجرد لقيمات في الحديث "بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلاَتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ". تبلغ بها المنتهى فإن كان لآبد مصمم على الأكل، بعض الناس يتذوق الطعام، الطعام هذا مملح مدقق طعام نوعه كذا أنواع كثيرة من الأطعمة، صار هناك تفنن في الأكل والشرب، « بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلاَتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لاَ مَحَالَةَ [يريد الأكل] فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ ».
      قَلَّ أن تجد أحدًا فوق الثلاثين لا يعاني من إشكاليات المعدة قَلَّ بل ربما ما دون هذا.

      أسأل الله الكريم المنان أن يرزقنا السعادة الحقيقية وأن يوفقنا إلى طاعته اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان اللهم إنا نسألك الجنة وما يقرب إليها من قول أو عمل ونعوذ بك من النار وما يقرب إليها من قول أو عمل.
      وأقم الصلاة

      **************************************************


      خطبة اليوم من القاء فضيلة الشيخ : صلاح الدين علي عبد الموجود






      تعليق

      • Mayada oulabi
        !! عضوية الإمتياز !!
        • Aug 2010
        • 3799

        أسأله عز وجل أن يرزقنا طعم السعادة الحقيقية وينور قلوبنا بحلاوة الأيمان
        ويقوينا على الطاعه
        وخاصة ونحن على أبواب 10 ذي الحجة

        أشكرك سلاف على ماتقدميه لنا من تذكرة

        وذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين
        اللَّهُمَّ عَامِلْنا بِإِحْسَانِكَ، وَتَدَارَكْنَا بِفَضْلِكَ وَامْتِنَانِكَ، وَتَوَلَّنَا بِرَحْمَتِكَ وَغُفْرَانِكَ، وَاجْعَلْنا مِنْ عِبَادِكَ الَّذِينَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ

        تعليق

        • سُلاف
          مشرفة المواضيع الإسلامية
          من مؤسسين الموقع
          • Mar 2009
          • 10535

          رد: مختارات من خطب الجمعة

          المشاركة الأصلية بواسطة Mayada oulabi مشاهدة المشاركة
          أسأله عز وجل أن يرزقنا طعم السعادة الحقيقية وينور قلوبنا بحلاوة الأيمان
          ويقوينا على الطاعه
          وخاصة ونحن على أبواب 10 ذي الحجة

          أشكرك سلاف على ماتقدميه لنا من تذكرة

          وذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين

          اللهم آمين يا رب العالمين

          جزاك الله خيرا وفضلا اختي العزيزة



          تعليق

          • كدي
            مشرف ينابيع الشعر العربي
            • Feb 2009
            • 1291

            ليست السعادة بجمع مال .... بل ان الشقى هو السعيد
            والسعادة الحقيقية هي باتباعك لامر الله و اجتناب نواهييه
            اللهم ارزقنا السعادة و نسألك القناعة

            اختي الكريمة جدا انا مقصر في متابعة موضوعك هذا
            مني العذر ومنك القبول
            ودمتي بود
            فليرض عني الناس أو فليسخطوا ...... أنا لم أعد أسعى لغير رضاك
            ذقت الهوى مراً ولم أذق الهوى ...... يارب حلواً قبل أن أهواك

            تعليق

            • سُلاف
              مشرفة المواضيع الإسلامية
              من مؤسسين الموقع
              • Mar 2009
              • 10535



              فضل الأيام العشرة من ذي الحجة وأحكام الأضحية





              الحمد لله الذي بيَّن الطريق وأوضح المحجة، وأرسل رسله مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حُجة، وجعل لكل شهر خصوصية، وخص بوقوع الحج ذا الحِجة, وحط الأوزار والآثام عمَّن قصد البيت الحرام وحَجَّه, وعظَّم الأجر والثواب لمن اظهر فيه التكبير وعجه.

              وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي كساه الله من حلل النبوة مهابة وبهجة, اللهم صلِّ على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه ما حمل سحابٌ ماءً وَمَجَّه، يقول الحق -سبحانه وتعالى- في محكم كتابه: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ) ، وقوله تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكَاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ)

              اعلموا -عباد الله- أنكم في أيام فضَّل الله زمانها، وعظَّم الله شأنها، وأقسم الله بها في كتابه بقوله:
              (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ)، فمِن الواجب -عباد الله- تعظيم هذه الأيام وتمييزها عن غيرها بشتى أنواع العبادات (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)

              ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام" - يعني أيام العشر -، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلاّ رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء"، وفي رواية: "فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد".

              فهذا دليل على عظم هذه الأيام وفضل الأعمال الصالحة فيها، حتى إنها أفضل من الجهاد في سبيل الله، إلا حالة واحدة، رجل خرج ليجاهد في سبيل الله بنفسه وماله فاستشهد وسلب ماله ولم يرجع من ذلك بشيء.

              عباد الله: والأعمال الصالحة اسم عام لكل ما يحبه الله ويرضاه من قول وفعل، وتشمل صيام هذه الأيام، أو ما تيسر منها، وبالأخص يوم عرفة، وتشمل نوافل العبادات من صلاة، وصدقة، وقراءة لكتاب الله، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، واستغلال هذه الأيام بطاعة الله وذكره وشكره وحسن عبادته والقيام، بالواجبات، والابتعاد عن المنهيات.

              ويعود سبب تعظيم هذه الأيام عباد الله لعدة أمور:
              منها أن فيها الأيام المباركة كيوم التروية، وهو يوم الثامن من ذي الحجة الذي يتروى فيه الحاج لوقوف يوم عرفة، فينتقل الحاج فيه من مكة الى منى.

              ومنها أن فيها يوم عرفة، وهو اليوم الذي يطلع الله فيه على عباده بالرحمة والمغفرة فيتجلى لهم ويباهي بهم ملائكته، إنه يوم مغفرة الذنوب، والعتق من النار، والمباهاة بأهل الموقف، ففي صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة".

              وإنه ليدنو -سبحانه- ثم يباهي بهم الملائكة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله تعالى يباهِي بأهل عرفات أهلَ السماءِ، فيقول لهم: انظروا إلى عبادي! جاءوني شُعثًا غُبرًا من كل فَجٍّ، أُشهدكم أني قد غفرتُ لهم".

              وصيام يوم عرفة كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده"، فهذه الأيام هي الأيام الوحيدة التي جمعت أركان الإسلام، ففيها ذكر وشهادة وإحسان وتوحيد، وكثرة عبادة من صيام وصلاة وحج، وغير ذلك من الأعمال الصالحة.

              نعم -عباد الله- انها أيام قليلة في عددها، ولكنها كثيرة بأعمال الخير والبر، فيتحصل الحاج فيها على أجر عظيم، كما أن غير الحاج لا يُحرم مِن الأجر فيشارك إخوانه الحجاج في أكثر شعائرهم، فهي أكثر أيام يعظّم الله فيها فيطلع الله على عباده بالرحمة والاستجابة لدعائهم فيوسع عليهم في دينهم ودنياهم، فهم أسعد الناس بطاعة الله في هذه الأيام المباركة.

              ومنها أن فيها اليوم العاشر، وهو يوم العيد، أول أيام النحر، وهو اليوم الذي تُسَنُّ فيه الأضحية، فهي سنة مؤكدة، لقوله تعالى: ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) ؛ ومنهم مَن قال بوجوبها في حق الغني القادر.

              وهو أعظم أيام العشر كما قال -عليه الصلاة والسلام-: "أعظم الأيام عند الله يوم النحر" رواه الحاكم وأبو داود، فمن الواجب أن نشكر الله على مشروعية الأضحية؛ لأننا نتقرب بها إلى الله -عز وجل-، ففيها إحياء لسنة أبينا إبراهيم -عليه السلام-، وقد قال -صلى الله عليه وسلم- لما سئل عن الأضاحي قال: "سُنَّة أبيكم إبراهيم عندما لبى أمر الله بذبح ابنه، ففداه الله بذِبْحٍ عظيم"، قالوا: فما لنا فيها يا رسول الله؟! قال: "بكل شعرةٍ وبكل صوفةٍ حسَنة" رواه ابن ماجه والبيهقي.

              فإذا كان إبراهيم -عليه السلام- ضحَّى بابنه في سبيل مرضاة الله؛ فمن باب أولى أن نضحي بأقل من ذلك وهو ذبح الأضاحي، فأحدنا يبخل على الله بأقل الأمور بأن يتقرب إليه بما أنعم عليه من نعمة الأنعام بشاة أو غيرها، فتجده ينفق على بيته كل عام مبلغا مرتفعا من المال، وعندما يأتي وقت الأضحية يصبح في حيرة من أمره: هل يضحي أم لا؟! ويتساءل: ما حكم الأضحية؟ يريد بذلك مخرجا كي لا يضحي، وهو مدخل الشيطان للصدقة، فكما قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الصدقة لَتخرج من بين فك سبعين شيطان".

              لا يا عبد الله! أضف على ميزانية بيتك ثمن أضحية، فهو مبلغ زهيد لا يساوي مع عظم الأجر شيئا، ولن ينال الله منها إلا التقوى له سبحانه، وابتغِ فيما آتاك الدار الآخرة: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ)

              فتذكروا -عباد الله- هذا الموقف العظيم لأبينا إبراهيم عليه السلام في التسليم لله تعالى وابتغاء رضوانه، وتقربوا إلى الله بإسالة الدماء، وذبح الأضاحي، والأكل والتصدق منها، وقد قال -سبحانه وتعالى-: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، القانع: الفقير الذي لا يسأل، والمعتر: السائل؛ أطعموا، فهو ليس مجرد ذبح، بل ذكر وتوحيد وشكر وتمجيد وإقرار بنعمة الهداية، واقتداء بنبيينا إبراهيم ومحمد -عليهما السلام-.

              وكما جاء في الحديث الشريف ‏عن ‏عائشة -رضي الله عنها-‏ ‏أن النبي ‏ ‏-صلى الله عليه وسلم- ‏ ‏قال: "‏ما عمل ابن ‏ ‏آدم ‏ ‏يوم النحر ‏عمل أحب إلى الله -عز وجل- من هراقة دم، وإنه ليأتي يوم القيامة بقرونها ‏ ‏وأظلافها ‏ ‏وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله -عز وجل- بمكان قبل أن يصل إلى الأرض، فطِيبوا بها نفسا!"؛ وبذل الأموال في الأضاحي أفضل من بذلها في الصدقات، فتقربوا إلى الله بذبح الأضاحي، وبخيرها وأفضلها، وهي خير أعمال يوم النحر.

              فضحوا -عباد الله- عن أنفسكم وأهليكم ليتحصل لكم الأجر العظيم، اقتداء بهديه وسنته ‏ ‏-صلى الله عليه وسلم- حيث ضحى عن نفسه وعن أهل بيته وعن أمّته، فالتشريك في الثواب لا حصر له، فها هو النبي -صلى الله عليه وسلم- ضحى عن كل أمته.

              وها هو الرجل في عهده -صلى الله عليه وسلم- كان يضحي بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته، ولو كانوا مائة، فعن عَطَاء بْن يَسَارٍ قال: سَأَلْتُ أَبَا أَيُّوبَ الأَنْصَارِيَّ: كَيْفَ كَانَتْ الضَّحَايَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فَقَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يُضَحِّي بِالشَّاةِ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَيَأْكُلُونَ وَيُطْعِمُونَ. صححه الألباني, قَالَ الْحَافِظُ اِبْنُ الْقَيِّمِ فِي "زَادِ الْمَعَادِ": وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ الشَّاةَ تُجْزِئُ عَنْ الرَّجُلِ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَلَوك كَثُرَ عَدَدُهُمْ.

              عباد الله فكثير من الناس يحرم نفسه وأهله من الأجر والثواب فلا يضحي إلا عن نفسه أو عن فلان وفلان، دون أن يجعل لنفسه ولأهل بيته فيها نصيباً من الأجر والثواب، والأولى أن يضحي عن الجميع، هذا ما فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث ضحى عن نفسه وعن أهل بيته وعن أمته، فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمَرَ بِكَبْشٍ أَقْرَنَ فَأُتِيَ بِهِ لِيُضَحِّيَ بِهِ، فَقَالَ لَهَا: "يَا عَائِشَةُ، هَلُمِّي الْمُدْيَةَ" يعني: السكين، ثُمَّ قَالَ "اشْحَذِيهَا بِحَجَرٍ"، فَفَعَلَتْ ثُمَّ أَخَذَهَا وَأَخَذَ الْكَبْشَ فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ ثُمَّ قَالَ: "بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ" ثُمَّ ضَحَّى بِهِ.

              واعلموا -عباد الله- أن من شروط الأضحية أن تكون من الأنعام، أي من الإبل والبقر والغنم، وأن تبلغ السن المقررة شرعا: الإبل خمس سنوات وطعنت في السادسة، والبقر أن تكون مسنة، أي أتمت السنتين وطعنت في الثالثة، فتجزي عن سبعة أشخاص والذين يعولونهم من فروعهم وأصولهم وتجزئ، البدنة والبقرة عن سبعة، لما روى جابر -رضي الله عنه- قال: نحرنا بالحديبية مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة.

              وفي لفظ: أمرَنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نشترك في الإبل والبقر، كل سبعة في واحد منها، وفي لفظ: فتذبح البقرة عن سبعة نشترك فيها. رواه مسلم, والماعز سَنة وتطعن في الثانية, والضأن ستة أشهر فما فوق.

              ومن شروط الأضحية أن تكون خالية من العيوب: العرجاء البيِّن عرجها، والعوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والكبيرة التي لا تنقى، فإذا أصابت هذه العيوب الأضحية فإنها لا تجزي، فعن ‏البراء بن عازب قال: قام فينا رسول الله -‏صلى الله عليه وسلم- فقال: "أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء بين عورها، والمريضة بين مرضها، والعرجاء بين ‏ ‏ظلعها، ‏والكبيرة التي ‏‏لا ‏تنقى"، ‏قال: قلت: فإني أكره أن يكون في السن نقص، قال: "ما كرِهْتَ فدَعْهُ ولا تحرمه على أحد".

              ومن شروط الأضحية أن تقع في الوقت المقرر شرعا من بعد صلاة العيد، وينتهي وقتها بغروب شمس ثالث أيام التشريق، فمَن ذبَح قبل صلاة العيد فقد خالف السنة، ولا تجوز أضحيته، ويجب عليه أن يعيد ذبح شاة مكانها بعد الصلاة، لما رواه الإمام مسلم عن جندب بن سفيان قال: شهدت الأضحى مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يعد أن صلى وفرغ من صلاته وسلم، فإذا هو يرى لحم أضاحي قد ذبحت قبل أن يفرغ من صلاته، فقال: "مَن كان ذبَح أضحيته قبل أن يصلي -أو نصلي- فليذبح مكانها أخرى، ومن كان لم يذبح فليذبح باسم الله".

              إذا، فأيام الذبح أربعة: يوم العيد، وأيام التشريق الثلاثة، وأفضلها يوم العيد، ويجوز ذبحها في الليل والنهار، والنهار أفضل.

              عباد الله: إنَّ ما يطلب وما يستحب وما يجوز وما ينبغي من المضحي أن يفعله هو ما يلي:
              يطلب منه أن يمتنع عن قَصِّ شَعره أو حلقه أو تقليم أظافره، لحديث أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلّم- قال: "إذا دخلَت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره" رواه أحمد ومسلم، وهذا مبني على الكراهة، وإذا نوى الأضحية أثناء العشر أمسك عن ذلك من حين نيته، ولا إثم عليه فيما أخذه قبل النية.

              والحكمة في هذا النهي أن المضحي لمــَّا شارك الحاج في بعض أعمال النسك، وهو التقرب إلى الله تعالى بذبح القربان، شاركه في بعض خصائص الإحرام من الإمساك عن الشعر ونحوه، وهذا حكم خاص بمَن يُضَحِّي.

              وأما من يُضحَّى عنه فلا يتعلق به؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلّم- قال: "وأراد أحدكم أن يضحي"، ولم يقل: أو يُضحَّى عنه؛ ولأن النبي -صلى الله عليه وسلَّم- كان يضحي عن أهل بيته، ولم يُنقَل عنه أنه أمرهم بالإمساك عن ذلك؛ وعلى هذا فيجوز لأهل المضحي أن يأخذوا في أيام العشر من الشعر والظفر والبشرة.

              ويُسَنُّ له أن يذبح أضحيته بنفسه إن أحسن الذبح اقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان يذبح أضحيته بنفسه، وأصحابه كذلك, وذلك لأنها قربة يتقرب بها العبد إلى الله فندب إلى مباشرتها، ومن كان لا يحسن الذبح فليحضر عند الذبح، فقد أمر رسول الله فاطمة -رضي الله عنها- أن تشهد ذبح أضحيتها.

              وينبغي له أن يسمي ويصلي ويسلم على رسوله، ويستقبل القبلة بالذبيحة، ويدعو الله بما دعا به رسول الله.

              ويجوز له الانتفاع بالأضحية، فالأضحية نوعان: الأضحية المنذورة، وأضحية التطوع؛ أما الأضحية المنذورة لله فلا يحل لصاحبها أن يأكل من لحمها ولا من شحمها أو أن ينتفع بشيء منها، ولا أن يبيعه، كالصوف والجلد أو الأطراف والرأس والشعر، وليس له أن يدفع شيئا منها أجرة للجزار، ولو أكل أو باع أو أعطى الجزار الأجرة أو انتفع منها بشيء فيضمن، وذلك بتقدير القيمة أو التصدق بمثله.

              أما النوع الثاني، أضحية التطوع، فيجوز للمضحي أن يأكل منها، فهو سنة مستحَبَّة اقتداء به -صلى الله عليه وسلم-، ويدخر، ويتصدق على الفقراء، وله أن ينتفع بأي شيء منها، ولا يجوز له أن يبيع شيئا منها مطلقا، لا لحما ولا شحما ولا صوفا ولا وبرا ولا جلدا ولا رأسا، ولا أن يعطي الجزار منها شيئا أجرة على ذبحها أو سلخها؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام- لعلي -رضي الله عنه-: "تصدق بجلالها وخطامها، ولا تعطي أجر الجزار منها شيئا".

              والنهي عنه نهي عن البيع أيضا; لأنه في معنى البيع، ولو أكل أو باع أو أعطى الجزار الأجرة منها فيضمن، وذلك بتقدير القيمة والتصدق بمثلها.

              ويستحب أن تقسم إلى ثلاث: ثلث للأكل والادخار, وثلث للصدقة, وثلث للهدية, فلك ما تصدقت فأبقيتَ، وما أكلت فأفنيت.

              ويجوز للحي أن يضحي عن قريبه الميت، بهذا قال الحنابلة، وهو من اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية، وذلك لأنها صدقة، والصدقة عن الميت تجوز بالإجماع، وإذا حصل هذا في العبادات البدنية كالصوم والصلاة، والعبادات البدنية والمالية كالحج، فمن باب أولى أن يجوز في الأضحية عن الميت التي هي دون هذه في القرب منزلة وحكما في هذا الدين.


              الخطبة الثانية:

              عباد الله: ومِن حِكَمِ مشروعية الأضحيةِ التقربُ إلى الله تعالى بامتثال أوامره، ومنها إراقة الدم، ولهذا كان ذبح الأضحية أفضل من التصدق بثمنها -عند جميع العلماء- وكلما كانت الأضحية أغلى وأسمن وأتم كانت أفضل؛ ولهذا كان الصحابة -رضوان الله عليهم- يسمِّنون الأضاحي، فقد أخرج البخاري -معلَّقاً- في صحيحه، قال يحيى بن سعيد: سمعت أبا أمامة بن سهل قال: كنا نسمن الأضحية بالمدينة، وكان المسلمون يسمنون.

              ومن حكم مشروعيتها التربيةُ على العبودية، وإحياء سنة أبينا إبراهيم، حيث رأى في المنام أنه يذبح ابنه إسماعيل، ورؤيا الأنبياء حق وصدق، ولابد من تنفيذها، فتعلم الإنسان التضحية في سبيل الله بالنفس والمال والولد، (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الـمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)

              ومن حكم مشروعية الأضحية التوسعةُ على النفس والعيال عند الأكل منها، وإطعامُ الناسِ والفقراءِ بالصدقةِ عليهم، والتوسعةُ عليهم، وإغناؤهم عن المسالة، والذي لا يقوم دفع قيمتها مقام ذبحها في التوسعة على الناس.

              ومن حكم مشروعيتها الشكر على نِعَمِ الله على الإنسان بالمال والأضحية, وإراقة الدم صورة ووسيلة من صور ووسائل الشكر لله تعالى على نعمه وآلائه، وذلك بإعلان التوحيد، وذكر اسم الله -عز وجل- عند ذبحها، لقوله تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ)

              هذا، وصَلَّى اللهُ وسلَّمَ على محمد وعلى آله وصحبه.



              *****************************************


              خطبة اليوم لفضيلة الشيخ : بركات أحمد بني ملحم
              من جامع جبران بعمان / الأردن








              تعليق

              • المهندس احسان عبد الكريم
                زراعي مميز
                • Jul 2011
                • 415

                اسعد الله ايامك سيدتي الكريمة ونور لياليك وكل عام وانت بالف خير.
                أسال الله تعالى ان يتقبل صالح اعمالك في العشر وان يملأ حياتك حبورا وبشر وان يجعلك امنة يوم الحشر ............امين
                اذا كان لك رغيفان فكل احدهما واشتر بالثاني زهور

                تعليق

                • سُلاف
                  مشرفة المواضيع الإسلامية
                  من مؤسسين الموقع
                  • Mar 2009
                  • 10535

                  رد: مختارات من خطب الجمعة

                  المشاركة الأصلية بواسطة المهندس احسان عبد الكريم مشاهدة المشاركة
                  اسعد الله ايامك سيدتي الكريمة ونور لياليك وكل عام وانت بالف خير.
                  أسال الله تعالى ان يتقبل صالح اعمالك في العشر وان يملأ حياتك حبورا وبشر وان يجعلك امنة يوم الحشر ............امين
                  الله يبارك بعمرك أخي إحسان ويجعلك من السعداء عنده

                  أسعدتني كلماتك ودعاؤك الصادق ، أسأل الله لك بالمثل وزيادة من كل ما دعوت لي به

                  كل عام وأنتم بخير وسلام ان شاء الله



                  تعليق

                  • سُلاف
                    مشرفة المواضيع الإسلامية
                    من مؤسسين الموقع
                    • Mar 2009
                    • 10535

                    تأملات في سورة العصر



                    الحمد لله العزيز الغفار، مكور الليل على النهار، سبحانه جعل الفوز والفلاح لمن اتقاه، وسعى في طاعته واتبع رضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمرنا أن نتواصى بلزوم ما يرضيه، والصبر عن معصيته ونواهيه، وأشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أعظم الناس قدرا، وأكثرهم صبرا، فاللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

                    أما بعد: فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله عز وجل، قال تعالى:( واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون).

                    أيها المؤمنون: أمرنا الله سبحانه أن نقرأ القرآن الكريم، ونفهم معانيه، ونتدبره لندرك مراميه، قال تعالى:( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب).

                    وسورة العصر قد حوت في طياتها كثيرا من المعاني الإيمانية، والفوائد التربوية والسلوكية، يقول أحد أئمة الفقه عنها: لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم. وقال: لو لم ينزل إلى الناس إلا هي لكفتهم. وكان الصحابة الكرام رضي الله عنهم يقرؤونها إذا التقوا أو افترقوا. وقد افتتح الله عز وجل هذه السورة بالقسم، فقال:( والعصر) وهو الزمن الذي تقع فيه أعمال بني آدم، وهذا يدل على عظم الوقت وأهميته، وشرف الزمان وعلو قيمته، فالوقت من أنفس النعم التي أنعم الله سبحانه بها على الناس؛ لأنه ميدان سعيهم، ومضمار سبقهم، والرابح من اغتنم وقته، وصان من الزلل نفسه، والخاسر من فرط في الزمن، فكن يا عبد الله ممن أحسن اغتنام وقته وعمره بالخير والعمل، ولا تضيع الوقت وإن كان قليلا، فهو إما لك أو عليك، قال الله تعالى:( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)

                    ولمكانة وقت العصر وشرفه فضل الله فيه بعض العبادات، فخص صلاة العصر من بين الصلوات، فأمرنا بالاهتمام بها، والمحافظة عليها، قال تعالى:( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين) وحذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من تركها، أو التهاون فيها، أو التغافل عن أدائها، فقال صلى الله عليه وسلم :« من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله ».

                    أيها المسلمون: وقد بينت السورة أن الناس فريقان: فريق يلحقه الخسران، وفريق ناج من الخذلان، فمن وفقه الله تعالى جعل الوقت عونا له في حياته، فأحسن استثماره في اكتساب أمور منها: الإيمان بالله تعالى، قال عز وجل:( إن الإنسان لفي خسر* إلا الذين آمنوا)

                    فالإيمان هو الركن الذي لا غنى عنه للإنسان، وهو أساس الفرح والأمان، وباب السرور والاطمئنان، ولا يقبل الله تعالى من إنسان عملا، ولا يثبت له أجرا، ما لم يكن عمله نابعا من الإيمان بالله تعالى، وحقيقته التسليم والخضوع لله عز وجل، وامتثال أمره، والرضا بقسمه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا».

                    ومن الإيمان بالله استثمار الجوارح في عمل الطاعات والقربات، ولذا أردف الله سبحانه وتعالى عمل الصالحات بعد ذكر الإيمان فقال:( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) والعمل الصالح هو ما وافق الشرع والعرف والذوق السليم.

                    عباد الله: ولا تكتمل نجاة الإنسان وبعده عن أهل الخسران إلا بالتواصي بالحق مع أهل الإيمان، قال تعالى:( وتواصوا بالحق ) والحق هو لزوم العمل بكتاب الله، وامتثال أمره، واجتناب نهيه، فيوصي المرء أهله وأرحامه، وأقاربه وجيرانه، وأصدقاءه وأحبابه، ويدلهم على الطاعات، ويعينهم على فعل الخيرات، ويرغبهم في نيل الحسنات، فمن استثمر وقته في هذه الأعمال، ودعا الناس لاكتساب جميل الخصال أكرمه الله تعالى بالخير في الحال، وأثابه بالأجر عند المآل، قال صلى الله عليه وسلم :« من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا».

                    وخاتمة صفات أهل النجاة التواصي بالصبر قال تعالى:( وتواصوا بالصبر) والصبر خلق رائق نفيس، ويعني حمل النفس على لزوم الطاعة وكفها عن المعصية واحتمال المصائب، ومن رزق الصبر أعطاه الله خيرا كثيرا، وجعل العسير عليه يسيرا، قال صلى الله عليه وسلم :« وما أعطى أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر ».

                    فاللهم اجعلنا من عبادك المهتدين الصابرين، ووفقنا لطاعتك وطاعة من أمرتنا بطاعته، عملا بقولك:( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)

                    نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبسنة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.



                    الخطبة الثانية

                    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أصحابه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

                    أما بعد: فاتقوا الله عباد الله واحرصوا على ما أرشدنا إليه القرآن الكريم من حميد الخصال وكريم الخلال، فيا فوز من اغتنم وقته بالطاعات، واستقام على فعل الخيرات وأكثر من عمل الصالحات، والتزم الحق ولم يتبع هواه وبذل النصيحة للناس، ودعاهم إلى اتباع الحق والتواصي بالصبر، فإن الصبر مفتاح الفرج، وعاقبته كريمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« إن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيه مثل قبض على الجمر، للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله». قال: يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال:« أجر خمسين منكم».

                    فالتخلق بالصبر ملاك فضائل الأخلاق كلها، فمن حازه جمع الخير كله، قال تعالى:( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)

                    عباد الله: إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى فيه بملائكته فقال تعالى:(إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا»

                    اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر الصحابة الأكرمين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

                    اللهم إنا نسألك قلبا شاكرا، ولسانا ذاكرا، ورزقا طيبا، وعملا متقبلا، وعلما نافعا، وعافية في البدن، وبركة في العمر والذرية، اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارض عنا وأرضنا، اللهم اجعل زادنا التقوى، وزدنا إيمانا ويقينا وفقها وتسليما، اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، اللهم إنا نسألك الفوز بالجنة والنجاة من النار، اللهم لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته، ولا هما إلا فرجته، ولا دينا إلا قضيته، ولا مريضا إلا شفيته، ولا حاجة إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.


                    اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات ، اللهم اشمل بعفوك وغفرانك ورحمتك آباءنا وأمهاتنا وجميع أرحامنا ومن كان له فضل علينا.

                    اللهم اغفر لكل من وقف لك وقفا يعود نفعه على عبادك، اللهم بارك في مال كل من زكى وزده من فضلك العظيم،

                    اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم (وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون).

                    ___________________________








                    تعليق

                    • سُلاف
                      مشرفة المواضيع الإسلامية
                      من مؤسسين الموقع
                      • Mar 2009
                      • 10535



                      الهجرة النبوية دروس وعبر



                      الخطبــــة الأولـــــى:


                      الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من أضاع أمره وعصاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا إله غيره ولا رب لنا سواه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن أقام أمره واجتنب نهيه ودعا بدعوته واهتدى بهداه إلى يوم الدين.


                      أما بعد:
                      فقد بعث الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بدعوة تملأ القلوب نوراً، فسابق إلى قبولها رجال عقلاء، ونساء فاضلات، وصبيان لا زالوا على فطرة الله. وبقيت تلك الدعوة على شيء من الخفاء، وكفار قريش لا يلقون لها بالاً؛ فلما جهر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أغاظ المشركين، وحفزهم على مناوأة الدعوة والصد عن سبيلها؛ فوجدوا في أيديهم وسيلة هي أن يفتنوا المؤمنين، ويسومونهم سوء العذاب، حتى يعودوا إلى ظلمات الشرك، وحتى يرهبوا غيرهم ممّن تحدثهم نفوسهم بالدخول في دين القيّمة.
                      ولذلك أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة بعد أن تهيأت فيها أسباب التمكين بدخول معظم أهلها في دين الله .
                      أخوة الإسلام : لن يكون كلامنا اليوم عن أحداث الهجرة المباركة فهي في قلب كل مسلم لا تفارقه لحظة واحدة ، إنما سنتكلم عن بعض الدروس والعبر التي يجب على المسلم أن يفهمها من هذا الحدث العظيم ، فالناظر في الهجرة النبوية يلحظ فيها حكماً باهرة، ويستفيد دروساً عظيمة، ويستخلص فوائد جمة يفيد منها الأفراد، وتفيد منها الأمة بعامة. فمن ذلك على سبيل الإجمال ما يلي:

                      (1) وجوب الجمع بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله :
                      ويتجلى ذلك من خلال استبقاء النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه لينام مكانه وأبي بكر رضي الله عنه ليكون رفيقه في هذه الرحلة .
                      وكذلك استعانته بالدليل العارف بالطرق عبد الله بن أريقط
                      ويتجلى كذلك في كتم أسرار مسيره إلاّ من لهم صلة ماسّة، ومع ذلك فلم يتوسع في إطلاعهم إلاّ بقدر العمل المنوط بهم، ومع أخذه بتلك الأسباب وغيرها لم يكن ملتفتاً إليها بل كان قلبه مطوياً على التوكل على الله عز وجل ، ويدل على ذلك حديث عن أبي بكرٍ الصِّديق - رضي الله عنه قَالَ : نَظَرتُ إِلَى أَقْدَامِ المُشْرِكينَ وَنَحنُ في الغَارِ وَهُمْ عَلَى رُؤُوسِنا ، فقلتُ : يَا رسولَ الله ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيهِ لأَبْصَرَنَا . فَقَالَ : (( مَا ظَنُّكَ يَا أَبا بَكرٍ باثنَيْنِ الله ثَالِثُهُمَا )) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .
                      والله سبحانه يقول : (( إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )) التوبة /40

                      (2) الإعتدال حال السراء والضراء:
                      فيوم خرج عليه الصلاة والسلام من مكة مكرهاً لم يخنع، ولم يذل، ولم يفقد ثقته بربه، ولما فتح الله عليه ما فتح وأقر عينه بعز الإسلام وظهور المسلمين لم يطش زهواً، ولم يتعاظم تيهاً؛ فعيشته يوم أخرج من مكة كارهاً كعيشته يوم دخلها فاتحاً ظافراً، وعيشته يوم كان في مكة يلاقي الأذى من سفهاء الأحلام كعيشته يوم أطلت رايته البلاد العربية، وأطلت على ممالك قيصر ناحية تبوك ، فالمسلم الداعية لا يبتغي منصباً على دعوته ولا مالاً ولا جاهاً برغم ما يتعرض له من أذى وما يتحمله من مشاق .

                      (3) اليقين بأن العاقبة للتقوى وللمتقين:
                      فالذي ينظر في الهجرة بادئ الرأي يظن أنّ الدعوة إلى زوال واضمحلال.
                      ولكن الهجرة في حقيقتها تعطي درساً واضحاً في أن العاقبة للتقوى وللمتقين. فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلّم بسيرته المجاهد في سبيل الله الحق أن يثبت في وجه أشياع الباطل، ولا يهن في دفاعهم وتقويم عوجهم، ولا يهوله أن تقبل الأيام عليهم، فيشتد بأسهم، ويجلبوا بخيلهم ورجالهم؛ فقد يكون للباطل جولة، ولأشياعه صولة، أمّا العاقبة فإنّما هي للذين صبروا والذين هم مصلحون (( فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ )) هود/49

                      (4) أنّ النصر مع الصبر:
                      فقد كان هيناً على الله عز وجل أن يصرف الأذى عن النبي صلى الله عليه وسلم جملة، ولكنها سنة الإبتلاء يؤخذ بها النبي صلى الله عليه وسلم الأكرم؛ ليستبين صبره، ويعظم عند الله أجره، وليعلم دعاة الإصلاح كيف يقتحمون الشدائد، ويصبرون على ما يلاقون من الأذى صغيراً كان أم كبيراً ، وليعلم الدعاة أن طريق الدعوة هو طريق الأنبياء فعليهم أن يصبروا على الأذى كما صبر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم .

                      (5) انتشار الإسلام وقوته:
                      وهذه من فوائد الهجرة، فلقد كان الإسلام بمكة مغموراً بظلم الباطل، وكان أهل الحق في بلاء شديد؛ فجاءت الهجرة ورفعت صوت الحق على صخب الباطل، وخلصت أهل الحق من ذلك الجائر، وأورثتهم حياة عزيزة ومقاماً كريماً ، فكان وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بداية تأسيس دولة الإسلام العظمى التي نشرت راية الإسلام على ربوع المعمورة .

                      (6) التنبيه على عظم دور المسجد في الأمة:
                      ويتجلى ذلك في أول عمل قام به النبي صلى الله عليه وسلم فور وصوله المدينة، حيث بنى المسجد؛ لتظهر فيه شعائر الإسلام التي طالما حوربت، ولتقام فيه الصلوات التي تربط المسلم برب العالمين، وليكون منطلقاً لجيوش العلم، والدعوة والجهاد ، فقد كان المسجد هو المرجع للمسلمين في كل شأن من شؤونهم .

                      (7) التنبيه على عظم دور المرأة:
                      ويتجلى ذلك من خلال الدور الذي قامت به عائشة وأختها أسماء رضي الله عنهما حيث كانتا نعم الناصر والمعين في أمر الهجرة؛ فلم يخذلا أباهما أبا بكر رضي الله عنه مع علمهما بخطر المغامرة، ولم يفشيا سرّ الرحلة لأحد، ولم يتوانيا في تجهيز الراحلة تجهيزاً كاملاً، إلى غير ذلك ممّا قامتا به.

                      (8) عظم دور الشباب في نصرة الحق:
                      ويتجلى ذلك في الدور الذي قام به علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين نام في فراش النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة.
                      ويتجلى كذلك من خلال ما قام به عبدالله بن أبي بكر؛ حيث كان يستمع أخبار قريش، ويزود بها النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه.
                      هذه بعض الدروس والعبر والحكم التي مررت عليها سريعاً وللمسلم أن يستنبط غيرها الكثير الكثير
                      فهذا هو المهاجر الأول، وهذا هو الداعية المطارد من أجل مبدئه
                      وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.


                      الخطبــــة الثانيـــــة:

                      الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
                      أما بعد :
                      فقد أظلّنا أيها الإخوة شهر عظيم مبارك هو شهر الله المحرّم أول شهور السنّة الهجرية
                      فعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - ، قَالَ : قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : (( أفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ : شَهْرُ اللهِ المُحَرَّمُ ، وَأفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الفَرِيضَةِ : صَلاَةُ اللَّيْلِ )) رواه مسلم .
                      وفيه يوم عاشوراء الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم : « صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِى قَبْلَهُ » رواه مسلم
                      فهلموا أيها الإخوة والأخوات إلى عبادة الله في هذا الشهر الكريم كما يحبّ ويرضى، ووفق سنّة النبي المصطفى، نسأل الله أن يهدينا سبل السّلام وأن يرزقنا العمل بما يُرضيه وأن يُعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

                      نقف في مثل هذا اليوم مساندين للشعب الفلسطيني الصابر -نشد علي يديه ونعظم فيه الصبر والمصابرة ضد احفاد القردة والخنازير ونقول لشعبنا -ان الليل مهما طالت ظلمته لابدّ للفجر ان يلوح .. وأشد ساعات الليل ظلمة تلك التي تسبق بزوغ الفجر.

                      ونحي ابطال الاقصى ، الابطال الذين أروا العالم اجمل صور الصبر والثبات والله اكبر والعاقبة للمتقين، رحم الله شهداء الاقصى واسكنهم فسيح جناته وفرج عن اخواننا في غزة وكل بقاع فلسطين الطاهرة وعن العراق والعراقيين امين.

                      إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا

                      _____________________________________________







                      تعليق

                      • سُلاف
                        مشرفة المواضيع الإسلامية
                        من مؤسسين الموقع
                        • Mar 2009
                        • 10535



                        كـيـف نعظــم عاشــوراء



                        الحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِين , ولا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِين , وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَلِيُّ الصَّالِحِين , وَأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً نَبِيُّ اللهِ وَرَسُولُهُ الأَمِين , صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعين , وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً .

                        أَمَّا بَعْدُ : فِإِنَّ اللهَ تَعالَى يَقُولُ (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) فِإِذَا أَرَادَ اللهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ شَيْئَاً أَتَمَّهُ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ ذُلِّ ذَلِيلٍ , فَلا رَادَّ لِحُكْمِهِ , وَلا مُعَقِّبَ لِقَضَائِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى .
                        وَيَتَجَلَّى ذَلِكَ فِي حِفْظِهِ لأَوْلِيَائِهِ وَحِمَايَتِهِ لأَنْبِيَائِهِ عَلَيْهِم صَلَوَاتُ رَبِي وَسَلامُه , وَمِنْ ذَلِكَ قِصَّةُ مُوسَى حَيْثُ حَفِظَهُ اللهُ مِنْ كَيْدِ فِرْعَوْنَ الذِي أَرَادَ قَتْلَهُ مِرَاراً لِرُؤْيَا رَآهَا مَفَادُهَا أَنَّ غُلاماً يَخْرُجُ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ يَكُونُ هَلاكُ مُلْكِهُ عَلَى يَدَيْهِ , فَجَهِدَ فِرْعَوْنُ فِي تَوَقِّي ذَلِكَ وَقَتَلَ وَاحْتَاطَ , وَلَكِنْ : لا يُغْنِي حَذَرٌ مِنْ قَدَر !
                        جَاءَ مُوسَى حتَّى تَرَبَّى فِي قَصْرِ فِرْعَوْنَ وَبِحِمَايَةٍ مِنْهُ , وَرَدَّهُ اللهُ إلى أُمِّهِ وَأَرْضَعَتْهُ حتَّى كَبُرَ , وَتَرَعْرَعَ , ثُمَّ قَتَلَ وَاحِدَاً مِنْهُمْ انْتِصَارَاً للْحَقِّ ؛ وَجَهِدُوا فِي قَتْلِهِ فَلَمْ يَقْدِرُوا لأَنَّ اللهَ مَعَهُ يَحْفَظُهُ , ثُمَّ خَرَجَ إِلَى مَدْيَنَ وَقَابَل رَجُلاً صَالِحاً , قِيلَ : إنَّه ُشَعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلامُ , ولا يَصِحُّ ذَلِكَ بَلْ هُوَ غَيْرُهُ , ثُمَّ اسْتَأْجَرَهُ ثَمَانِ سِنينَ وَأَتَمَّهَا مُوسَى عَشْراً وَذَلِكَ لأَمَانَتِهِ وَصِدْقِهِ وَقُوَّتِهِ , ثُمَّ بَعْدَ الْعَشْرِ عَادَ مُوسَى إلى دِيَارِ أَهْلِهِ , فَاصْطَفَاهْ اللهُ وَحَمَّلَهُ الرِّسَالةَ إِلَى الطَّاغِيَةِ فِرْعَوْنَ وَأَرْسَلَ مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلامُ , فَدَخَلا عَلَى فِرْعَوْنَ , وَدَعَوَاهُ إلى اللهِ بِالقَوْلِ اللَّيِّنِ لَعَلَّهُ يَتَذَكُرُ أَوْ يَخْشَى , وَأَرَاهُ مُوسَى الْحَيَّةَ وَالعَصَا آيَتَيْنِ عَلى صِدْقِهِ , وَلكَنْ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ , فَمَنِ انْطَبَعَ قَلْبُهُ عَلى الْكُفْرِ فَلا يُؤْمِنُ مَهْمَا رَأَى مِن الْحُجَجِ , ثَمَّ جَمَعَ فِرْعَوْنُ السَّحَرَةَ لِمُنَازَلَةِ مُوسَى وهارونَ عَلَيْهِمَا السَّلامُ وَإبْطَالِ مَا أَتَيَا بِهِ , فَكَانَ الأَمْرُ بِالْعَكْسِ !
                        فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا : أإِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ , قَالَ لَهُمْ فِرْعَوْنُ : نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ , قَالُوا : يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ؟ قَالَ : أَلْقُوا ! فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ !
                        فَأَوْحَى اللهُ إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ! فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ , فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ , فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ , وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ , رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ!
                        وكَاَنَ الْمُنْتَظَرُ أَنَّ فِرْعَوْنَ يُؤْمِنُ تَبَعَاً للسَّحَرَةِ لأَنَّهُ هُوَ الذِي أَتَى بِهِم , وَهُمْ أَهْلُ الْخِبَرَةِ فِي السِّحْرِ وَعَرِفُوا أَنَّ الذِي مَعَ مُوسَى لَيْسَ سِحْرَاً !
                        وَلَكِنَّهُ مَا كَانَ يُرِيدَ الحَقَّ , وَلِذَا أَصَرَّ عَلَى الْكُفْرِ وَكَابَرَ وَتَنَكَّرَ !
                        ثُمَّ إِنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلامُ - جَهِدَ فِي دَعْوَتِهِ بِطُرِقٍ مُتَنَوِّعَةٍ !
                        وَلَكِنَّهُ مَا أَطَاعَ هُوَ وَلا قَوْمُهُ وَاسْتَمَرُّوا فِي العِنَادِ وَالْمُكَابَرَةِ فَأَرْسَلَ اللهُ عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ , لَعَلَّهُمْ يَتَّعِظُونَ ! وَلَكِنْ كَانَ الْعَكْسُ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ , وَكُلَّمَا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا : يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ !
                        فَكُلَّمَا كَشَف اللهُ عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ! فَيَنْقُضُونَ عُهُودَهُمُ الَّتِي عَاهَدُوا اللهَ وَيُقِيمُونَ عَلَى كُفْرِهِمْ وَضَلَالِهِمْ ! فَلَمَّا طَالَ الأَمَدُ , أَمَرَ اللهُ مُوسَى أَنْ يَسْرِيَ بِبَنِي إسْرَائِيلَ وَأَخْبَرَهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ سَوْفَ يُتَّبَعُونَ , فَلمَّا عَلِمَ فِرْعَوْنُ أَرْسَلَ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ وقال : إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ , وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ , فَجَمَعَ جُنُودَاً عَظِيمَةً , وأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ عِنْدَ الصَّبَاحِ , فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانُ وكانَ الْبَحْرُ أَمَامَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَفِرْعَوْنُ خَلْفَهُمْ قَالُوا لِمُوسَى : إِنَّا لَمُدْرَكُونَ , فقَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ : كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ !
                        وَهَكَذَا الْمُؤْمِنُ الوَاثِقُ بِرَبِّهِ يَتَوَكَلُ عَلَيْهِ مَهْمَا غَابَتْ الأَسْبَابُ الْمَادِّيَّةُ , قَالَ اللهُ تَعَالَى (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) فَشَقَّ اللهُ لَهُم الْبَحْرَ اثْنَيْ عَشَرَ طَرِيقَاً وَأَمَرَ اللهُ الرِّيحَ فَلَفَحَت أَرْضَ البَحْرِ حتَّى صَارَتْ أرْضُ يَابِسَةً فِلِهَذَا قَالَ اللهُ تَعَالَى { فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا } أَيْ : لَا تَخَافُ مِنْ فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ أَنْ يَلْحَقُوكُمْ { وَلا تَخْشَى } مِنْ الْبَحْرِ أَنْ يُغْرِقَ وَقَوْمَكَ !
                        وَسَارَ بَنُو إِسْرَائِيلَ حتَّى تَكَامَلُوا خُرُوجَاً مِنْ الْبَحْرِ , فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُه , فَنَزَلُوا الْبَحْرَ فِي إثْرِهِم , فَلَمَّا تَكَامَلُوا نُزُولاً , أَمَرَ اللهُ الْبَحْرَ فَعَادَ وَالْتَأَمَ فَأَغْرَقَهُم اللهُ أجْمَعِين !
                        فَأَهْلَكَ اللهُ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ وَأَنْجَى رَسُولَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ وَقَوْمَهُ , وَكَانَ ذَلِكَ فِي العَاشِرِ مِنْ شَهْرِ اللهِ الْمُحَرَّمِ , فَصَامَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ هَذَا اليَوْمَ شُكْراً للهِ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ , ثُمَّ صَامَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِهِ اقْتَدَاءً بِهِ وَشُكْرَاً للهِ !

                        أَيُّهَا الَمُسَلِمُونَ : وَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الْمَدِينَةِ, وَجَدَ اليَهُودَ فِيهَا يَصُومُونَ العَاشِرَ مِنْ مُحَرَّمٍ فَسَأَلَهُم عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ فَأَخْبَرُوه , فَصَامَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ الصَّحَابَةَّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ بِصِيَامِه ! قَالَ (فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ , وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ ؟ فَقَالَ (يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ
                        وَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَصُوم َيَوْمَاً قَبْلَهُ مُخَالَفَةً لليَهُودِ .
                        فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضَاً , عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ : حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ قَالَ فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
                        أَيُّهَا الإِخْوَةُ :وَإِنَّ يَوْمَ عَاشُورَاءَ هَذَا العَامِ هُوَ الاثْنَيْنُ القَادِمُ إِنْ كَانَ شَهْرُ ذِي الْحِجَّةِ نَاقِصَاً أَوْ الثُلاثَاءُ إِنْ كانَ تَامًّا , فَمَن صَامَهُمَا ضَمِنْ بِإذْنِ اللهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَصَامَ يَوْمَاً قَبْلَهُ أَوْ يَوْمَاً بَعْدَهُ .
                        اَللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ , اَللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ , اَللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ ! واللهُ تَعَالى أَعْلَمُ.



                        الخطبة الثانية
                        الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِين وَقَيُّومُ السَّمَاواتِ السَّبْعِ والأَرضِين ، والصَلاةُ والسَّلامُ عَلى الْمَبْعُوثِ رَحْمَةً للْعَالَمِينَ ! أَشْهُدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ , صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ ، وَعَلَى مَنْ سَارَ عَلَى هَدْيِهِ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ إِلى يَوْمِ الدِّينِ , أَمَّا بَعْدُ :
                        فَإِنَّ صَوْمَ عَاشُورَاءَ سَنُّةٌ , وَفَضْلُهُ عَظِيمٌ , وَلَكَنْ لَيْسَ مِن السُّنَّةِ تَعْظِيمُهُ أَوْ تَخْصِيصُهُ بِشَيْءٍ غَيرِ الصِّيَامِ كَمَنْ يَجْعَلُهُ يَوْمَ فَرِحٍ , وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ تَشَبَّهَ بِالْمُشْرِكِينَ وابْتَدَعَ فِي دِينِ اللهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ !
                        فَعَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كَانَ أَهْلُ خَيْبَرَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ يَتَّخِذُونَهُ عِيدًا وَيُلْبِسُونَ نِسَاءَهُمْ فِيهِ حُلِيَّهُمْ وَشَارَتَهُمْ ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَصُومُوهُ أَنْتُمْ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ
                        وَكَذَلِكَ فَلا يَجُوزُ جَعْلُهُ يَوْمَ حُزْنٍ كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْبِدَعِ الذِينَ يَنُوحُونَ فِيهِ وَيَلْطُمُونَ وَجَوهَهَمْ وَيَضْرِبُونَ رُؤُوسَهُمْ بِالسِّيُوفِ حُزْنَاً - بِزَعْمِهِم – عَلَى مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ !
                        وَأَمَّا نَحْنُ فَإِذَا ذَكَرْنَا مَقْتَلَ الْحُسَينِ أَوْ أَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا , أَوْ غَيْرَهُمَا مِمَّنْ قُتِلَ ظُلْمَاً , نَقُولُ مَا أَرْشَدَنَا اللهُ إِلِيْهِ : إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ !
                        قَالَ اللهُ تَعَالَى (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)
                        وَأَمَّا إِقَامُةُ الْمَآتِمِ وَإِظْهِارُ النِّيَاحِةِ وَلَطْمُ الْخُدُودِ وَشَقُّ الْجُيُوبِ فَمِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيِّةِ بَلْ مِمَّا تَبَرَّأَ رَسُولُ اللِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فَاعِلِهَا !
                        فَعَنَ عَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ أَوْ شَقَّ الْجُيُوبَ أَوْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ .

                        نَسْأَلُ اللهَ السَّلامَةَ وَالعَافِيةَ مِنْ هَذِهِ الْمَسِالِك ِالْهَالِكَةِ وَالطُّرِقِ الضَّالَّةِ .

                        اللَّهُمَّ إنا نعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَنَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لا نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ , اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَعَذَابِ النَّارِ ، وَفِتْنَةِ الْقَبْرِ ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ ، وَشَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى ، وَشَرِّ فِتْنَةِ الْفَقْرِ ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ قُلُوبَنَا بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدَ ، وَنَقِّ قُلُوبَنَا مِن الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِن الدَّنَسِ ، وَبَاعِدْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَطَايَانَا كَمَا بَاعَدَتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ . اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِن الكَسَلِ وَالْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ !
                        اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيمَا أَعْطَيْتَنَا مِن الْمَطَرْ وَزِدْنَا مِنْهُ واجْعَلْهُ عَامَّاً شَامِلاً لِبِلادِ الْمُسْلِمِينَ , اللَّهُمَّ اسْقِ بِهِ الوِهَادَ وَمَنَابِتَ الشَّجَرِ , اللَّهُمَّ لا تَحْرِمْنَا بِذُنُوبِنَا فَضْلَكَ , واغْفِرْ لنَا أَجْمَعِينَ وَوَالِدِينَا وَالْمُسْلِمِينَ وَصَلِّ اللَّهُمَّ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِين


                        __________________________________________________ _


                        خطبة اليوم من القاء فضيلة الشيخ : محمد بن مبارك الشرافي





                        تعليق

                        • العراقيه الجبوري
                          زراعي جديد
                          • Nov 2012
                          • 27

                          بارك الله فيك
                          احذر من الصحبة أن تفسد عليك دينك
                          من تكلم عني بسوء ففدوه تروحله ذنوبي

                          sigpic

                          تعليق

                          • سُلاف
                            مشرفة المواضيع الإسلامية
                            من مؤسسين الموقع
                            • Mar 2009
                            • 10535

                            رد: مختارات من خطب الجمعة

                            المشاركة الأصلية بواسطة العراقيه الجبوري مشاهدة المشاركة
                            بارك الله فيك
                            اسعدني مرورك اختي العراقية
                            كل عام وأنت بخير



                            تعليق

                            • سُلاف
                              مشرفة المواضيع الإسلامية
                              من مؤسسين الموقع
                              • Mar 2009
                              • 10535



                              الصلاح والفلاح من ثمار الصراحة والوضوح



                              الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد, فيا عباد الله:

                              لقد أكرمنا الله تعالى بهذا الدين الحنيف العظيم القوي الواضح المتين, الذي لا يأتيه الباطل, هذا الدين الذي هدانا الله إليه له سمات وميزات لم تكن في تشريع من التشريعات السابقة, فضلاً عن التشريعات الوضعية.
                              من سمات هذا الدين الصراحة والوضوح, لأن الصراحة فيها الراحة والطمأنينة, لأن الصراحة تعلِّم على الصدق والأمانة, وتبعد الإنسان عن الكذب والنفاق والمداهنة.

                              ربَّى الإسلام أتباعه على الصراحة؛ لأنَّ الإسلام حقٌّ وواضحٌ وقويُّ الحجة, لذلك ما أُكره أحد على الدخول فيه, قال تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}, وقال تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِين}. ومن وضوحه وقوَّته قال تعالى معلِّماً نبينا سيدنا محمداً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أن يقول لمخالفيه: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِين}.
                              الإسلام ربَّى أتباعه على استواء الظاهر والباطن, وعلى استقامة اللسان مع الجَنان, فالمسلم ليس له ظاهر يناقض الباطن, باطنه وظاهره سواء, بل سريرته أصلح وأفضل من علانيته.

                              أيها الإخوة الكرام: إذا حلَّت الصراحة أسرة من الأسر, ومجتمعاً من المجتمعات, رأيت أفراد الأسرة والمجتمع متماسكين متحابِّين متعاونين, أما إذا غابت الصراحة في أحاديث الناس مع بعضهم البعض, إن كان على مستوى الأسرة, أو المؤسسة, أو الأمة, فلا تتعجب عندما ترى البغضاء قد انتشرت أوصالها بين الناس, وكثر التنافر وضَرَبَ بجذوره في العلاقات الإنسانية.
                              فالإسلام ربَّى أتباعه على الصراحة, ربَّى الأسرة على ذلك, وربَّى الأمة على جميع مستوياتها على ذلك, لأن كمَّ الأفواه ومنع الكلام ليس من عادة الأقوياء في حجَّتهم, بل من شأن الضعفاء أصحاب القوة العاتية بدون حجة ولا برهان, بل هو شأن الفراعنة الذين يعيشون على حساب الناس بقوَّتهم الباغية, لذلك ترى منطلق الفراعنة من خلال قول قائلهم: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَاد}, ليس عنده الاستعداد لسماع كلام غير كلامه, لأنه خائف على سلطانه وجاهه ودنياه.

                              يا عباد الله, إن أصحاب النفوس الكبيرة, وأصحاب الهمم العالية, والشخصيات القوية هم المؤهَّلون لتحمُّل صراحة محدِّثيهم معهم, ويقدِّرون ذلك جيداً, فلا يغضبون, ولا تتغير وجوههم فيحملهم ذلك على معاداتهم, أو خصامهم, أو مقاطعتهم وتحدِّيهم, أو مقابلة صراحتهم بالتهكُّم عليهم والإساءة لهم, فضلاً عن الضرب والقتل والتشريد وسفك الدماء.
                              أصحاب النفوس الكبيرة والهمم العالية يجعلون من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قدوة لهم, لأن الله تعالى قال لهم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}, لأن حبيبهم ونبيَّهم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قال لهم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) أخرجه الحسن بن سفيان وغيره وصححه النووي في الأربعين.
                              أصحاب الهمم العالية لا يأبهون أين موقع نفوسهم, ولا ينظرون إلى مكانتهم الاجتماعية, لأنهم يعلمون أن مواقعهم ومكانتهم هي عمل وظيفي إن أحسنوا وأتقنوا عملهم كانوا محبوبين عند الله تعالى, وذلك لقوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (إن الله عز وجل يحبُّ إذا عمل أحدُكم عملاً أن يُتْقِنَهُ) أخرجه الطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب. الأصل عند هؤلاء أن يكونوا على سنة نبيِّهم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في تقبُّل الصراحة من الآخرين.

                              معشر المسلمين, لقد جعل الله تعالى لنا نموذجاً رائعاً لتقبل الصراحة من الآخرين, لقد جعل لنا نموذجاً ليس له مثيل قبله ولا بعده, لقد جعل الله تعالى لنا نموذجاً هو سيد ولد آدم عليه السلام, بل هو سيد الأنبياء والمرسلين, بل هو سيد أولي العزم من الرسل, بل هو سيد المخلوقات العلوية والسفلية على الإطلاق, هذا النموذج هو سيدنا وحبيبنا وقرةُ أعيننا سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
                              هذا النموذج ضرب أروع الأمثلة لتقبل الصراحة من جميع الخلق, مع سموِّ قدره وعلوِّ شأنه, مع أن الله تعالى قال فيه: {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِير}.
                              هذه الشخصية العظيمة مع جلالة قدرها وعظم هيبتها ما كانت لتمنع أصحابها من قول الصراحة في قول الأمور كلِّها صغيرها وكبيرها, كانت هذه الشخصية تقبل صراحة الآخرين, ولا تكمُّ أفواههم, مع أن الله تعالى هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير.
                              فيا من يريد أن يكون ناجحاً في بيته إن كان ربَّ أسرة, ويا من يريد أن يكون ناجحاً في مؤسسة إن كان صاحبَ مؤسسة, ويا من يريد أن يكون ناجحاً في ملكه ورئاسته إن كان صاحبَ ملك ورئاسة, عليك أن تقبل صراحة الآخرين, وانظر إلى حبيبك صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم إن كان حبيباً إلى قلبك.

                              يا عباد الله, أخرج الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ, ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا, وَفِي الْقَوْمِ يَوْمَئِذٍ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ, فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ, وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ فَقَالُوا: قَصُرَتْ الصَّلاةُ, وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُ ذَا اليَدَيْنِ, فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتْ؟ فَقَالَ: لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تَقْصُرْ, قَالُوا: بَلْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ: صَدَقَ ذُو اليَدَيْنِ, فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ, ثُمَّ سَلَّمَ, ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ, ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ, ثُمَّ وَضَعَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ, ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ.
                              يا عباد الله, انظروا إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في هذا الموقف, لم يغضب, وما زجر, بل أيَّد ما قاله الصحابة, رغم أنه قال لهم: (لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تَقْصُرْ), فما دامت الصلاة لم تقصر, قالوا: (بَلْ نَسِيتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ) ما أجملها من صراحة مع كمال الأدب.

                              يا عباد الله, لقد أصبحنا في هذا العصر لا نعرف الصراحة ـ إلا من رحم الله ـ لقد فقد الناس الطريق إلى الصراحة, وسلكوا طريقاً آخر, طريق الكذب والنفاق, يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم, وإذا كان المجتمع هكذا فأيُّ خير يرتجى؟ أيُّ خير يرتجى من مجتمع متفكِّك لا يستطيع فيه الواحد أن يقول ما بداخله صراحة؟
                              يا عباد الله, تعلَّموا الصراحة وعلِّموها للآخرين بحالكم قبل قالكم, أيها الآباء علِّموا الصراحة لأبنائهم! أيها الأزواج علِّموا الصراحة لنسائكم! أيها المدراء علِّموا الصراحة لموظَّفيكم! أيها الحكام علِّموا الصراحة لمحكوميكم! واسمعوا:
                              أخرجه الإمام البخاري عن عبد الله بن هشام رضي الله عنه قال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه, فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلا مِنْ نَفْسِي!
                              فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ)!
                              فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ وَاللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي!
                              فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الآنَ يَا عُمَرُ).
                              ما هذه العظمة في الصراحة؟
                              أولاً: صراحة سيدنا عمر رضي الله عنه: (يَا رَسُولَ اللَّهِ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلا مِنْ نَفْسِي), صدق وصراحة, لا كذب ونفاق, اليوم هناك من يبالغ في المجاملات, وخاصة مع الشخصيات الكبيرة أصحاب المراكز العليا, وتزداد المجاملة وضوحاً وظهوراً إذا كانت لا تتجاوز حَيِّزَ الكلمات والأقوال, وتقل كلما دخلت دائرة الأداء العملي.
                              النفاق ما كان يعرف طريقاً إلى قلوب الصحابة رضي الله عنهم.
                              ثانياً: صراحة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم, هي صراحة المتبوع للتابع, وإلا كيف يتعلَّم التابع الصراحة مع المتبوع, سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قال لسيدنا عمر رضي الله عنه: (لا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ).
                              رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ما كان حريصاً على محبة الناس له انطلاقاً من نفسه الشريفة, بل كان حريصاً على ذلك امتثالاً لأمر الله تعالى, لأن الله تعالى قال: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين}.
                              يجب أن يكون رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أحبَّ إلينا من أنفسنا, لأن الله تعالى يقول: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}, فإذا كان أولى بنا من أنفسنا فيجب علينا أن نحبَّه أكثر من أنفسنا, لذلك قال لسيدنا عمر هذا الكلام: (حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ).
                              يا عباد الله, هل تجدون هذه الصراحة بين التابع والمتبوع على كلِّ المستويات في مجتمعنا؟ إذا كنا فقدنا هذا, فاعلموا بأن السبب في ذلك هو أننا ما وضعنا يدنا بيد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
                              هذا سيدنا عمر رضي الله عنه أخذ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم بيده حساً ومعنى حتى أدخله الجنة, حيث كان من المبشرين بالجنة وهو في حياته الدنيا, فهل ينظر كلُّ واحد منا إلى نفسه لينظر من هو الذي آخذ بيده؟ وعلى خطى من يسير؟
                              سل نفسك يا أخي: الذي آخذٌ بيدك هل يوصلك إلى جنة عرضها السماوات والأرض؟ هل يوصلك إلى أن تقول عند سكرات الموت: واطرباه غداً ألقى الأحبة محمداً وصحبه؟ أم لا قدر الله يوصلك إلى أن تقول عند سكرات الموت: {رَبِّ ارْجِعُون * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}, وفي الآخرة تقول: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً}!
                              ثالثاً: ترجع إلى قومك وتَدَعنا:
                              أيها الإخوة الكرام: لقد ربَّى الإسلام أتباعه على الصراحة والوضوح والاستيثاق, أخرج الإمام أحمد في مسنده, في بيعة العقبة قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ).
                              قَالَ: فَأَخَذَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ! لَنَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا, فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَحْنُ أَهْلُ الْحُرُوبِ وَأَهْلُ الْحَلْقَةِ وَرِثْنَاهَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ.
                              قَالَ: فَاعْتَرَضَ الْقَوْلَ ـ وَالْبَرَاءُ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الرِّجَالِ حِبَالاً, وَإِنَّا قَاطِعُوهَا ـ يَعْنِي الْعُهُودَ ـ فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ نَحْنُ فَعَلْنَا ذَلِكَ, ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللَّهُ, أَنْ تَرْجِعَ إِلَى قَوْمِكَ وَتَدَعَنَا, قَالَ: فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: (بَلْ الدَّمَ الدَّمَ, وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ, أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي, أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ).
                              صراحة من التابع: (يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الرِّجَالِ حِبَالاً, وَإِنَّا قَاطِعُوهَا ـ يَعْنِي الْعُهُودَ ـ فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ نَحْنُ فَعَلْنَا ذَلِكَ, ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللَّهُ, أَنْ تَرْجِعَ إِلَى قَوْمِكَ وَتَدَعَنَا).
                              وصراحة من المتبوع: (بَلْ الدَّمَ الدَّمَ, وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ, أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي, أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ).

                              خاتمة نسأل الله تعالى حسنها:
                              يا عباد الله, بالصراحة كان المجتمع كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى, وبغير الصراحة كان المجتمع متفكِّكاً متمزِّقاً, تظهر فيه علامات النفاق, فهل رجعنا إلى دين الله تعالى على كلِّ المستويات وكنا صريحين, ونحب الصراحة من الآخرين؟
                              أقول هذا القول, وكلٌّ منا يستغفر الله, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.


                              **************************************************


                              خطبة اليوم لفضيلة الشيخ : أحمد شريف النعسان





                              تعليق

                              • سُلاف
                                مشرفة المواضيع الإسلامية
                                من مؤسسين الموقع
                                • Mar 2009
                                • 10535



                                حقوق العامل على رب العمل





                                إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه، ونستغفرُه، ونتوبُ إليه، ونعوذُ به من شرورِ أنفسِنا، ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه صلَّى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِهِ، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.

                                أمَّا بعدُ: فيا أيُّها الناسُ، اتَّقوا اللهَ تعالى حَقَّ التقوى.

                                عباد الله: إن الإسلام يتشوَّف دائماً إلى مجتمعٍ متكافلٍ متعاونٍ متماسك، يسود بين أتباعه الأخوة والمودة، ويقوم على أساس العدل، بعيداً عن الظلم والحيف والجور.

                                وإن من أعظم ما يقوِّض تماسك الأمة ويفسد الحال بين أفرادها الظلمَ، بمختلف صوره وألوانه، وفي شريعة الله تحريم الظلم، في كتاب الله وفي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فالله -جل وعلا- بكمال عدله تنزه عن الظلم فقال -جل جلاله-: (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) ، وقال تعالى وتقدس: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)، وقال -جل جلاله-: (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)

                                وجاء تحريم الظلم في السنة النبوية، ففي الحديث القدسي الذي يرويه نبينا عن ربنا -جل جلاله- قال: "يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلتُه بينكم محرماً فلا تظالموا"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ألا إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله".

                                وبيَّنت السنة عاقبة الظلم، وأن عاقبته وخيمة، وعذابه أليم، وقد حذَّر الله الظالمين وتوعدهم أعظم وعيد، قال -جل وعلا-: (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ)

                                وأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن الله بالمرصاد للظالمين يمهلهم ثم يأخذهم على غِرة أخذ عزيز مقتدر، وفي الصحيح يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته" ثم تلا قوله: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) ، (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)

                                والظلم ظلماتٌ يوم القيامة، "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة"، وأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن دعوة المظلوم مستجابة؛ لأنه مظلوم فدعاؤه على ظالمه مستجاب، يقول -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ: "واتق دعوة المظلوم! فإنه ليس بينها وبين الله حجاب".

                                وأخبر -صلى الله عليه وسلم- عن انتصار الله للمظلوم على ظالمه، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثةٌ لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والمسافر، ودعوة المظلوم، يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول: وعزتي! لأنصرنَّك؛ ولو بعد حين".

                                وأخبر -صلى الله عليه وسلم- عن حقيقة الإفلاس يوم القيامة، فسأل أصحابه، "أتدرون من المفلس فيكم؟"، قالوا يا رسول الله: المفلس فينا من لا دينار له ولا متاع، قال: "ولكن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا، وضرب هذا، وأكل مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن قضيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أُخِذ من سيئات المظلوم فطُرِحت عليه، ثم طُرِح في النار".

                                وقال أيضاً: "من كان عنده مظلمةٌ لأخيه من عِرضٍ أو شيء فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم"، إن كان عملٌ صالح أُخِذ منه بقدر مظلمته، وإلا أُخِذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طُرِح في النار.

                                أيها المسلم: هذه عاقبة الظلم في الدنيا والآخرة، فمن اتقى الله في نفسه وتبصر في نفسه ترفع عن الظلم مادام قادراً عليه.

                                أيها الإخوة: ومن أنواع الظلم ظلم الخدم والعمال والكفلاء والمستأجرَين بأنواع الظلم والعدوان الصادرة من بعض أولئك، فمن هذا الظلم تكليفهم ما يغلِب عليهم ولا يستطيعون القيام به، وتهديدهم إن قصروا بقطع شيءٍ من المرتب أو نحو ذلك، وهذا من أنواع الظلم، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إخوانكم خوَلكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فلا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم".

                                ومن أنواع ظلمهم أيضاً تأخير مستحقاتهم والمماطلة بها إلى أن تمضي الشهور العديدة وهم يطلبونها ولا يحصلون عليها؛ لأن هذا الكفيل وهذا المسؤول وصاحب المؤسسة لا يبالي بالضعفاء والمساكين، ولا يقيم لهم وزناً، ولا يخشى عقوبة الله، إما لقوة نفوذه، أو لأنه يستطيع التحايل والتلاعب على هؤلاء، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "مطل الغني ظلم"، أي تأخير القادر على الوفاء ظلمٌ لذلك الإنسان المستحق للوفاء، ظلمك إياه أن أخَّرت مستحقه وهو يستحقه، أخرته عليه شهوراً عديدة، يعتبر هذا ظلمٌ منك وعدوان.

                                ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "ليُّ الواجد يُحِلُ عِرضه وعقوبته" أي امتناع القادر على الوفاء يُحِل عقوبته وسبه، لأنه ارتكبَ إثماً عظيماً وأخَّر ما يجب عليه إيفاءه.

                                ومن أنواع الظلم جُحدان الحقوق وإنكارها، والتنصل من هذه الحقوق، ودعوى أنه قد أعطى ولم يعطِ، وهذا يقع من بعض الأفراد، أو من بعض المؤسسات والشركات فلا يبالون، وربما استغلوا جهل الجاهل فوقَّع على أمورٍ لا يعلم حقيقتها يدينونه بها والله يعم أنهم كاذبون.

                                ومن أنواع ظلم العامل أيضاً عدم توفير الأمور الأساسية له من مسكنٍ أو غذاء أو أمورٍ صحية يخالف بذلك أفعاله السيئة فيتنكر لكل هذه الحقوق.

                                ومن أنواع ظلمهم الإتِّجار بهم كما يفعله بعض أولئك، فيتَّجرون بالخادمات أحياناً، يأتي بها على أن المرتب ألف ريالٍ أو نحو ذلك ثم يؤجرونها للآخرين بأضعاف تلك الأجرة ويأخذون الزائد ويعطونها أقل من ذلك عن جهلٍ منها وعدم علمٍ بحقيقة الأمور، وهذا خطأٌ ومخالفٌ لشريعة الله، فإن أولئك أحرار وليسوا أرقاء لك تتصرف فيهم كيف تشاء، والله خلق آدم وذريته أحراراً، وإنما الرق طارئٌ بأسباب الكفر والضلال، وإلا فالأصل أنهم أحرار، لهم حقوقهم الواجبة.

                                فكونك تأخذ الخادمة بأجرٍ معين ثم تؤجرها على آخرين بأضعاف تلك الأجرة وتأخذ هذا الأجر الزائد لك، إن هذا ظلمٌ وعدوان، فالأفراد والمؤسسات والشركات لا يجوز لهم التلاعب بهذا؛ بل يُعطى العامل حقه، وإن أُجِّر لغيره أُعطيَ ما يستحق، إلا برضىً منه وطيب من نفسه؛ أما هذا التحايل وهذه المماطلات بأولئك فتلك صورةٌ خاطئة ينبغي للمسلم البعد عنها.

                                إن المجتمع المسلم يجب أن يظهر بالصورة الحقيقية التي جاء بها الإسلام، وهي الوفاء، وأداء الحقوق، والالتزام بها؛ لأن المجتمع المسلم يجب أن تُنقل عنه صورةٌ حسنةٌ طيبة في الوفاء والتعامل الحسَن، كما أمرنا اللهُ بذلك، ورسولُه -صلى الله عليه وسلم-، هذا الواجب على الجميع، الله -جل وعلا- يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)، وهؤلاء يُخلون بالعقود بأمور.

                                ومن إخلالهم بالعقود أن يتفق مع العامل على أجرٍ معين فإذا تمكن منه ماطله بذلك، وحاول أن يفرِض عليه التنازل عما اتفقا عليه لأجل مصلحته، فيتفق معه مثلاً على أجرٍ ثم يحاول أن ينزله إلى أقل من ذلك، والعقد القائم بينهم معروف، لكن هذا الظالم يريد أن يخل بهذا العقد، وهذه معصيةٌ لله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)

                                ومن تلاعب أولئك أنهم يستقدمون أحياناً عمالاً لمؤسسات وهمية ومصانع وهمية لا حقيقة لها ولا وجود لها على أرض الواقع، فيأتي هذا العامل وينتظر العمل في هذه المؤسسة أو في هذه المزرعة أو في أماكن معينة وإذا صاحبه قد أخبره بخلاف الواقع، وخلاف الواقع مصانع وهمية وأعمالٌ لا أرضية لها في أرض الواقع، فماذا يعمل؟ يتركهم فوضى في الشوارع يكتسبون، ثم هو لهم بالمرصاد عند كل وقت فيستغل شيئاً من أجرتهم وينافسهم على مصالحهم.

                                يبثهم في الشوارع يعملون على ما يشاءون، لكن هو لهم بالمرصاد في كل شهر يمتص من رواتبهم، يقتص من رواتبهم ظلماً وعدواناً، وينافسهم في أعمالهم، ويضايقهم في معيشتهم، لماذا؟ لأنه استقدمهم!.

                                نعم، استقدمتَهم فخُذ منهم قدر ما أنفقت، خذ منهم قدر ما أنفقت وبذلت، أما أن تجعلهم أرقاء لك في كل الأعوام، لا يسافرون إلا بتسليم، ولا يجدد لهم الإقامة إلا بأخذ شيء من أموالهم، هذا ظلمٌ وعدوان، وأكل مالٍ بغير حق، والله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)، هذا باطل وخطأ وأخذ مال بغير حق.

                                العمل شرفٌ لأهله، وعزٌ لأهله، وأنت أيها المغفل الذي لا تستطيع العمل ولا التنفيذ، وأنت نائمٌ على فراشك بعمالٍ جئت بهم تستغل معيشتهم، وتضايقهم في أرزاقهم، وتقتطع من حقهم ظلماً وعدواناً، هذا أمرٌ لا يجوز إقراره ولا البقاء عليه، ينبغي أن تأخذ قدر ما أنفقت، وما زاد على ذلك فاعلم أنه ظلمٌ في حقك، وأكل مالٍ بغير حق، وحرامٌ عليك!.

                                كيف ترضى لنفسك بالدون والهوان؟ هؤلاء يأكلون من عرق جبينهم، يكدحون ويتعبون ويشرفون أنفسهم بالعمل، وأنت مهمتك أن تكون لهم بالمرصاد، تقتص من حقوقهم وتأخذ من أموالهم بغير حق؟! هذا كله ظلمٌ وعدوان.

                                ومن أنواع ظلمهم -أيضاً- السب والشتم والأقوال البذيئة وتعييرهم بألقابهم، أو سب بلادهم، أو ضربهم بغير حق.

                                ومن ظلمهم أن بعض هذه المؤسسات يؤخرون رواتب العمال سنةً أو أكثر، ثم يقتطعونها من زكاة أموالهم، ويعطونهم من زكاة أموالهم حقوقهم، وهذا ظلمٌ وعدوان؛ لأن الزكاة حقٌ للفقير والمسكين، ولا يمكن أن تكون الزكاة تسقط الواجب عليك، وهذا خطأ، الحقوق الواجبة لا تسقطها الزكاة، كما أن نفقة أولادك لا تكون من زكاة مالك، والنفقة على الأبوين لا تكون من زكاة مالك، فكيف ترضى أن تعطيهم زكاة مالك لتسقط الحقوق الواجبة لهم؟.

                                إن تأخير الحقوق يسبب مفاسد عظيمة، منها أن الكفيل قد يكون فقيراً لو تراكمت الشهور عليه لعِجز أن يؤديها، فالواجب أن يؤديها كل شهرٍ بشهره حتى يسلم من التبعات.

                                ثم بعضهم يسأل: العامل ترَك عندي مرتب سنة أو سنتين وغادر ولا أعرف مكانه ولا أستدل على عنوانه، إذن ما الحال؟ كل هذا نتيجة للظلم والعدوان وعدم التبصر.

                                إنَّ الواجب تقوى الله في هذه الأمور كلها، وأن نعطيَ كل ذي حقٍ حقه، وأن يكون المسلمون صورةً حيةً بتطبيق شريعة الإسلام، وأن ينقل عن المجتمع المسلم أنه مجتمعٌ مسلمٌ حقاً في أقواله وأعماله؛ لأن هذا هو الواجب، إن أيَّ خطأ يقع من العمَّال لاشك أنه قد يكون سببه من العامل ذاته، وقد يكون سببه من صاحب العمل وإهماله.

                                أيتها المرأة المسلمة: إن خدمكِ في بيتك أنتِ مسؤولة عنهم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "المرأة راعيةٌ في بيت زوجها ومسؤولةٌ عن رعيتها"، فأنتِ راعيةٌ على مَن في البيت، اتقِي الله في مَن تحت يدك، كوني قدوةً صالحة، احذري الظلم والعدوان، والكلمات البذيئة، والكلمات السيئة، اتقي الله في ذلك.

                                ثم أيضاً راعي البيت وشأنه، وإياكِ أن تجعلي ثِقل البيت على هؤلاء المستخدمين، ثم تلومين ما حصل وما حصل! أنتي مسؤولة عن البيت وشؤون البيت والمنزل، أنتِ المسؤولة عن الأطفال كلهم، أنتِ المسؤولة والمؤتمنة، فاتقي الله في الأمور كلها، وعامليهم معاملةً حسنة،...، بدعوتهم إلى الله، ليروا منَّا أخلاقاً طيبة، وتعاملاً حسناً، ودعوةً صادقة، بالأخلاق والكرامة والفضيلة.

                                إنَّ المسلم يمثِّل الإسلام في أقواله وأعماله وسلوكه، حتى إذا رآه الغير ورأوا سلوكه الحسن وأخلاقه الفاضلة نقلوا تلك الصورة الحسنة، وتأدَّبوا وتخلَّقوا بأخلاقنا، أمَّا إنْ قابلناهم بسوء العمل، أو رأوا منَّا تهاوناً في أمور ديننا، وتساهلاً في محارمنا، وعدم مبالاةٍ بأخلاق إسلامنا، فإن تلك هي المصيبة العظيمة!.

                                فالمسلمون يجب أن يمثلوا الإسلام في أخلاقهم وأعمالهم وتصرفاتهم ليكونوا دعاةً إلى الخير، دعاةً إلى الهدى، أسأل الله أن يثبت الجميع على دينه، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، إنه على كل شيءٍ قدير.

                                أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) .

                                بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.


                                الخطبة الثانية:

                                الحمدُ لله، حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه، كما يُحِبُّ ربُّنا ويَرضى، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمَّدًا عبدُه ورسولُه صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وصحبِه، وسلّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ.

                                أما بعد: فيا أيُّها الناسُ، اتَّقوا اللهَ تعالى حقَّ التقوى.

                                عباد الله: يقول -صلى الله عليه وسلم-: "قال الله: ثلاثةٌ أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمُه خصَمْتُه: رجلٌ أعطى بي ثم غدر، ورجلٌ باع حراً ثم أكل ثمنه، ورجل استأجر أجراء ثم استوفى حقه ولم يعطهم أجرهم"، هؤلاء الثلاثة الله خصمهم يوم القيامة، فاحذر أخي أن تكون مثلهم، أعط الحقوق لأهلها، وتخلص منها في حياتك قبل أن تلقى الله بها يوم القيامة تتمنى الخلاص ولا ينفعك ذلك.

                                أيها المسلمون: إن هدي الإسلام هو الهدي الحق في التعامل مع العامل، فكما يجب على العامل تقوى الله وأداء العمل بإخلاص وأمانة فيجب على رب العمل أن يقابل ذلك بالوفاء بما استلزمه من الحقوق والواجبات.

                                ولنجعل من هدي سيد البشر، سيد الأولين والآخرين محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- نبراساً لنا في تعاملنا مع الآخرين، يقول أنس -رضي الله عنه-: "خدمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، والله! ما قال لشيءٍ فعلتُه: لمَ فعلتَه، ولا لشيءٍ تركتُه لمَ تركتَه"، خدمه عشر سنين فنقل تلك الصورة الحية عن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في تعامله مع من خدمه.

                                أيها المسلم: إن أداءك الحقوق وتخلصك منها من أسباب تفريج الكربات، ونجاةٌ من المهالك والمضايق، في حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة في الغار، يقول الثالث منهم: "اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم حقهم إلا واحداً ترك الذي له وذهب، فأخذته فاستثمرته، ثم جاءني بعد حِين وقال: يا عبد الله أعطني حقي، قلت: كل ما ترى من الإبل والبقر والغنم والرقيق كله لك، قال: أتستهزئ بي؟ قلت لا، قال فاستاقه كله، ولم يترك شيئاً، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، قال: فانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون من الغار".

                                فالمضائق والشدائد إنما ينجِّي منها الأعمال الصالحة الخالصة لوجه الله تعالى، قال أبو مسعود البدري: كنت أضرب غلاماً لي في السوق، فإذا بصوتٍ يقول: "اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود"، قال: فالتفتُّ فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "يا أبا مسعود، اللهُ أقدَرُ عليك من قدرتك على هذا"، قال: فألقيت السوط، وقلت: يا رسول الله، والله لا أضرب بعده أحداً.

                                هكذا أدَّب محمدٌ أصحابه، ورباهم على القِيم والشيم والفضائل، فلنتقِ الله في أنفسنا، ولنأخذ من هدي نبينا نبراساً لنا في أمورنا كلها؛ لنكون من السعداء، أعطِ العامل حقه مسلماً أو غير مسلم، فالحقوق محفوظةٌ لجميع الخلق بعيداً عن الظلم والعدوان.

                                أسال الله أن يوفقني وإياكم لصالح القول والعمل، إنه على كل شيءٍ قدير، واعلموا -رحمكم اللهُ- أنّ أحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ اللهِ على الجماعةِ، ومن شذَّ شذَّ في النار.

                                وصَلُّوا -رَحِمَكُم اللهُ- على عبد الله ورسوله محمد، كما أمركم بذلك ربُّكم، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) .



                                **********************************************


                                خطبة اليوم من إلقاء فضيلة الشيخ : عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ




                                تعليق

                                مواضيع شائعة

                                تقليص

                                لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

                                جاري المعالجة..
                                X