لمــاذا ينهــزم المسلمــون
الحمد لله رب العالمين، إله الأولين والآخرين، قيوم السموات والأرضين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين.
وأشهد أنّ محمَّداً عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً،
أمَّا بعدُ:
فحين قدمت فلول المنهزمين من جيش الروم إثر معركة اليرموك الشهيرة، دخلوا على هرقل ملك الروم الهالك، فسألهم والحسرة تملأ قلبه والحيرة تكاد تُذهب عقله: ويلكم، أخبروني عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم، أليسوا بشراً مثلكم؟!.
قالوا: بلى!
قال: فأنتم أكثر أم هم؟!.
قالوا: بل نحن أكثر منهم، أضعافا في كل موطن.
قال: فما بالكم تنهزمون؟!.
فقال شيخ من عظمائهم: إنهم يهزموننا لأنهم يقومون الليل، ويصومون النهار، ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويتناصفون بينهم!.
أما نحن فنشرب الخمر، ونرتكب الحرام، وننقض العهد، ونغصب ونظلم، وننهى عما يرضي الله، ونفسد في الأرض.
قال هرقل: أما هذا فقد صدقني!.
هذا الموقف الذي وقفه أولئك المجرمون الكفرة، وهم يبحثون من خلاله أسباب هزيمتهم وعوامل نكستهم، هو نفسه الموقف الذي يجب أن نقفه نحن المسلمين اليوم، خاصّةً ونحن نرى الدائرة قد دارت علينا، وأصبحنا نحن الذين ننهزم وليس الروم!.
إننا بحاجة لطرح السؤال ذاته الذي سأله هرقل لبقايا جيشه المنهار، إننا يجب أن نتساءل، والمرارة تعتصرنا:
لماذا ينهزم المسلمون اليوم؟!.
ولماذا يتسلط عليهم عدوهم؟!.
من المسؤول عن هذا الواقع الأليم الذي صرنا إليه؟!.
أما آن لهذا الليل الطويل أن ينجلي؟!.
ثم لماذا انتصر أسلافنا في بدر وخيبر، وفي القادسية واليرموك، في حين نتجرع نحن الهزيمة تلو الهزيمة؟!.
ألسنا وإياهم مسلمين؟!.
إذاً لماذا ننهزم وينتصرون؟!.
هذان سؤالان مريران، والإجابة عليها أشدّ مرارة!.
نعم، أشد مرارة، لكن لا بد من تجرّع تلك المرارة إن كانت هناك رغبة ما في تغيير شيء من الواقع الكئيب، وإعادة الهيبة إلى الإسلام المحارب.
وعلى الذين يجعجعون باسم الإسلام، عليهم أن يدركوا أن الإسلام ليس انفعالاً طائشاً، أو عواطف فارغة، وليس نزوة أو ردة فعل.
إنّ لإسلام أعظم من ذلك بكثير.
إنه عقيدة ومنهج حياة.
إنه كلٌّ لا يتجزأ، وكتلة لا تنقسم!.
أيها المسلمون:
أما لماذا انهزمنا؟!، فالجواب عليه يعرفه أصغر طفل منا يقرأ القرآن:
(أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
فنحن إذاً سبب مباشر، في حدوث المصيبة، ونزول الكارثة!.
ألسنا نحن الذين غيّرنا شرع الله، وركنّاه وراء ظهورنا، وركضنا وراء تشريعات الكفار وأنظمتهم، وأحطناها بسياج من التعظيم والإجلال؟!.
ألسنا نحن الذين جعلنا من كتاب الله كتاباً مقدساً فحسب، وإن شئت قل كتاباً مقدساً مع وقف التنفيذ، فإن أحسنّا صنعاً قراناه في المناسبات والأفراح، وفي الإحزان والأتراح، ولا شيء سوى ذلك.
أما أن يكون القرآن حبل الأمة المتين، ودستورها المبين، ونظامها الحاكم، وشرعها ونظامها السائد، فذاك ضربٌ من الخيال، وشططٌ من الأماني!.
ألسنا نحن المعطلين لسنة خير الأنام، المستبدلين بها سخافات اللئام، وخزعبلات الطغام؟!.
ألسنا نحن الذين ميّعنا العقيدة، ونقضنا عرى الإيمان عروةً عروة، وهدمنا مقام الولاء والبراء، خطوة خطوة، حتى غدا العدو ولياً، والولي عدواً؟!.
ألسنا نحن الذين عطّلنا ذروة سنام الإسلام، فأَمَتنا الجهاد، وتبايعنا بالعينة، ورضينا بالزرع، واتبعنا أذناب البقر؟!.
ألسنا الذين أَمَتنا الغيرة في النفوس، يوم أقمنا المسارح الماجنة والشواطئ العارية، وعرضنا المشاهد الداعرة، حتى فسدت الأخلاق وذهبت الفضائل؟!.
ألسنا نحن الذين صرفنا الشباب عن سر قوتهم، ومبعث عزتهم، وأساس نهضتهم وأشغلناهم بسفاسف الأمور، وتوافه القضايا، فكانت الثمرة تلك الأجيال الهزيلة من ذوي الاهتمامات السخيفة، والتوجهات المنحرفة؟!.
ألسنا نحن الذين أعطينا العدو سكينا وخنجراً، ثم صرخ صارخنا: أواه، أواه على دم أريق ظلماً وقهراً؟!.
ألسنا نحن الذين منحنا اللص مفتاح خزائننا، ثم صرخ صارخنا: أواه، أواه على كنز سرق علانية وجهراً؟!.
أبعد ذلك يتساءل أقوام: لماذا انهزمنا؟!.
(وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ).
أيها المسلمون:
وأمّا لماذا انتصر أسلافنا وكيف قهروا عدوهم؟!.
فلأنهم - كما تقدم في حوار هرقل مع بقايا جيشه - كانوا يقومون الليل، ويصومون النهار، ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويتناصفون بينهم.
إن القضية ليست قضية عدد وعدة!.
إنها قضية إيمان وتقوى، وعقيدة ومبدأ ونظام ومنهج!.
لقد كان جنود الإسلام ليلة المعركة ركعاً سجداً، يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، فإذا كان الصباح لم يثبت لهم عدو، ولم تنتكس لهم راية!.
هذا سعد يصف شيئا من أخبارهم. وهو يكتب إلى عمر، يبشره بفتح القادسية:
" أما بعد، فإن الله نصرنا على أهل فارس، ومنحناهم سنن من كان قبلهم من أهل دينهم، بعد قتال طويل، وزلزال شديد، وقد لقوا المسلمين بعدة لم ير الراءون مثل زهائها، فلم ينفعهم الله بذلك، بل سلبوه ونقله عنهم إلى المسلمين، واتبعهم المسلمون على الأنهار، وصفوف الآجام، وفي الفجاج.
وأصيب من المسلمين سعد بن عبيد القارى، وفلان وفلان، ورجال من المسلمين لا يعلمهم إلا الله، فإنه بهم عالم، كانوا يدوون بالقرآن إذا جن عليهم الليل كدوي النحل، وهم آساد في النهار لا تشبههم الأسود، ولم يفضل من مضى منهم من بقي إلا بفضل الشهادة إذا لم تكتب لهم".
انتهى كلامه، رضي الله عنه.
فيا حسرة على أسود من زجاج، ونمور من خشب، وجنود يقضون ليلهم في طرب وغناء، وورق ودخان!.
أيها المسلمون:
وكان من عوامل انتصار أسلافنا كذلك تلك التربية الفريدة، والرعاية الكريمة، والاهتمام المتقن، الذي أحيط به الجندي المسلم!.
فكان الجندي، يشعر أنه يقاتل من أجل قضية واضحة، وهدف محدد.
يشعر أنه لا يقاتل عصبية أو حمية، ولا يقاتل لإشباع غرور متسلط، أو نزوة طائشة، لكنه يقاتل من أجل بناء العقيدة وإقامة الشريعة، وإزاحة الظلم عن العباد، لذا تجده يستأسد فوق أرض المعركة، لإيهاب الموت ولا يخش القتل، ولا ترهبه كثرة الأعداء!
لما أقبل خالد من العراق، يريد قتال الروم، قال له رجل من نصارى العرب، ما أكثر الروم، وما أقل المسلمين! فقال خالد:
"ويلك، أتخوفني بالروم؟! إنما تكثر الجند بالنصر، وتقل بالخذلان، لا بعدد الرجال!".
لله درك يا صاحب رسول الله، لله درك أبا سليمان! كيف لو عشت بيننا لترى ألف مليون مسلم، عاجزين عن إطلاق رصاصة واحدة يرهبون بها عدوهم الجاثم في صدروهم منذ عشرات السنين؟!.
أيها المسلمون:
وقد كان من عوامل النصر كذلك: ذلك التلاحم المتين بين القيادة والجند، فكانت القيادة تربوية في التعامل، مثالية في التوجيه، فريدة في الأداء.
وكان مفهوم الجسد الواحد، هو السائد بين الجميع، فلا يشعر أحدٌ أنّ له فضلاً على أخيه أو أنّه يستحق منزلة دون الآخرين، حتى أنك لترى أبا بكر يسير على قدميه، وهو يشيع جيش أسامة، في حين يظل أسامة، الشاب الصغير، راكباً فوق راحلته! وفي جيش وتحت أمرته شيوخ، المهاجرين والأنصار!.
يا سبحان الله، أبو بكر الخليفة الأعظم، لا يرى أنّ له أحقية في الركوب دون أسامة، وكبار المهاجرين والأنصار، لا يرون أن لهم أحقية قيادة الجيش دون أسامة!.
إنهم لا يرون لتلك المناصب، وذلك العرض أي قيمة تذكر، فقد كان همهم جميعاً، خدمة هذا الدين، أيّا كان موقع الواحد منهم، سواء في قمة الهرم، أم في أسفله!.
وهذا أبو بكر الصديق - رضي الله عنه – يستعمل عمرو بن العاص، على صدقات قضاعة ومعه الوليد بن عقبة! فيذهب عمرو، رضي الله عنه ليقوم بالمهمة، التي وكلت إليه بكل رحابه صدر، ثم بدا للصديق أن يصرفه لعمل آخر، فكتب إليه يستنفره إلى الشام:
"إني كنت قد رددتك على العمل الذي ولاكه رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة، وسماه لك أخرى، وقد أحببت أبا عبد الله أن أفرغك لما هو خير لك في حياتك ومعادك منه، إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك".
فكتب إليه عمرو بن العاص:
"إني سهم من سهام الإسلام، وأنت عبد الله الرامي بها، والجامع لها، فانظر أشدها وأخشاها فارم بي فيها".
الخطبة الثانية
اللهم إنّا نحمدك الحمد كله، ونشكرك الشكر كله، ونثني عليك الخير كله، نشكرك ولا نكفرك، لا نحصي ثناءاً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
اللهم صلي على نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين، ومن سار على نهجهم، واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون:
فتلك كانت بعض عوامل النصر التي تحلى بها الجند فوق أرض المعركة، بيد أنّ المثالية في حمل الدين، والتخلّق بآداب الإسلام، لم تكن مقصورة على الجند في ساحات القتال، ولكن الإسلام بجماله وبهائه، وسموه وعلوه وعظمته وروعته، كان موجوداً في بيوتهم ومساجدهم وفي شوارعهم وأسواقهم، ومجالسة قضائهم ومراكز حكمهم.
كانت العقيدة صافية لا يعتريها كدر أو غبش، وكانت البدع غائبة لا وجود لها ولا أثر، وكانت الشريعة هي الحاكمة والسائدة، وكانت الحدود تقام على الصغير والكبير، والأمير والحقير حتى أن خليفة كـ ( عمر بن الخطاب) لا يتواني عن جلد ابنه عبيد الله يوم شرب الخمر مستغلا نفوذه وسلطته!.
كما كانت قضية الولاء والبراء، بالغة الحساسية عظيمة الشأن في قلوب أولئك الأسلاف الكرام، حتى أنهم ليجدون غضاضة في التعامل مع الكفار، ولو فيما إباحة الشارع الحكيم هذا عمر رضي الله عنه يقول لأبي موسى وكان قد استعمل كاتباً نصرانياً مالك قاتلك الله، أما سمعت الله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ألا اتخذت حنيفاً مسلماً؟!.
قال: يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه، قال عمر، لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله! ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله!.
أيّها المسلمون:
هذه بعض أحوال القوم، وهكذا هو الإسلام، وهكذا جسّدوه فوق أرض الواقع، أفلا ينتصرون إذاً؟!.
إذاً فلا صلاح لآخر هذه الأمة إلا يوم تقتفي آثار أولئك الأبطال من رأس القمة إلى أسفل القاع، وبغير هذا نكون كنافخٍ في رماد، أو صارخ في واد!.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.
اللهم إنّا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة، والنجاة من النار...
**************************************************
خطبة اليوم لفضيلة الشيخ : رياض بن محمد المسيمري
تعليق