منصة زاجل الإجتماعية

تقليص

مختارات من خطب الجمعة

تقليص
هذا موضوع مثبت
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • سُلاف
    مشرفة المواضيع الإسلامية
    من مؤسسين الموقع
    • Mar 2009
    • 10535




    تأمــــلات في معنـى التشـهـــد








    الخطبة الأولى
    إن الحمد لله وله بعد الحمد التحايا الزاكيات، وهو المستعان فمن غيرُه يُرتَجى عند الكروب ودَهم المُلِمَّات، وعليه التُّكلان فحسبُنا الله وهو حسبُ الكائنات، وأشهد أن لا إله إلا الله وله تُزجَى كل تحية، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المجبولُ على أكرم سجيَّة، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وذريته أكرم ذرية، وعلى صحابته ذوي النفوس الرضيَّة، ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

    أما بعد:
    فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عز وجل -، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾

    من اتقى الله وقاه، وكفاه وأسعدَه وآواه، وتقوى الله خيرُ الزاد ذُخرًا، وعند الله لأتقى مزيد.

    أيها المسلمون:
    مُذ كان الأدبُ في الناس والناسُ يكسُون به فِعالَهم وكلامَهم عند مخاطبة العظماء ومُلاقاتهم، وخيرُ الناس خُلُقًا أحسنُهم أدبًا، ودينُ الإسلام يُعلِّمنا في الصلاة التي هي عمود الدين وشرفُ العبادات لله رب العالمين أن نتوسَّل إلى الله بأجمل التحايا، وأن تلهَجَ ألسنتُنا بأطيب العبارات وأزكى الكلمات، ومن أعظمُ من الله، ومن أكرمُ منه - جلَّ في عُلاه -؟!

    وتأمَّل كيف تتحرك جميعُ أعضاء المُصلِّي وجوارحُه في الصلاة عبوديةً لله خشوعًا وخضوعًا، فإذا أكملَ المُصلِّي هذه العبادة وقبل أن يُسلِّم انتهت حركاتُه، وختمَها بالجلوس بين يدي الرب تعالى جلوسَ تذلُّل وانكسار وخضوعٍ لعظمته - عز وجل - كما يجلسُ العبدُ الذليلُ بين يدي سيده.

    وجلوس الصلاة أخشع ما يكون من الجلوس وأعظمُه خضوعًا وتذلُّلاً، فأُذِن للعبد في هذه الحال بالثناء على الله - تبارك وتعالى - بأبلغ أنواع الثناء، وهو: التحيات لله والصلوات والطيبات.

    عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: كنا إذا جلسنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة قُلنا: السلامُ على الله من عباده، السلامُ على فلان وفلان، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقولوا: السلامُ على الله؛ فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلامُ عليك أيها النبي ورحمةُ الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنكم إذا قلتُم أصابَ كلَّ عبدٍ صالحٍ في السماء أو بين السماء والأرض، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ثم يتخيَّرُ من الدعاء أعجبَه إليه فيدعو به»؛ رواه البخاري ومسلم.

    أيها المسلمون:
    من عادة الناس إذا دخلوا على ملوكهم أن يُحيُّوهم بما يليقُ بهم تعظيمًا لهم وثناءً عليهم، واللهُ أحقُّ بالتعظيم والثناء من كل أحدٍ من خلقه، وفي التشهُّد يجمعُ العبدُ أنواعَ الثناء على الله - عز وجل - وأجمل عبارات الأدب والتحية، والتحيات جمع تحية، والتحية هي التعظيم، فكل نوعٍ من أنواع التحيات الطيبة فهو لله، والتحياتُ على سبيل العموم والكمال والإطلاق لا تكون إلا لله - عز وجل -، وهو - سبحانه - أهلٌ للتعظيم المُطلق، فالعظمة والملكُ والبقاءُ لله.

    والصلواتُ؛ أي: والصلوات لله، وهو شاملٌ لكل ما يُطلَق عليه صلاةٌ لغةً أو شرعًا من الدعاء والتضرُّع والرحمة، فالصلواتُ كلها لله، لا أحد يستحقُّها سواه، والدعاءُ أيضًا حقٌّ لله - عز وجل -، كما قال - سبحانه -: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾

    فكل الصلوات فرضُها ونفلُها لله، وكل الأدعية لله.

    والطيبات: هي الأعمال الزكية، ما يتعلَّقُ بالله وما يتعلَّقُ بأفعال العباد؛ فما يتعلَّق بالله فإن له من الأوصاف أطيبَها، ومن الأفعال أطيبَها، ومن الأقوال أطيبَها، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله طيبٌ لا يقبلُ إلا طيبًا»؛ أخرجه مسلم.

    فهو - سبحانه - طيبٌ في كل شيء، في ذاته وصفاته وأفعاله.

    وله أيضًا من أعمال العباد القولية والفعلية الطيب؛ فإن الطيب لا يليقُ به إلا الطيب، ولا يُقدَّمُ له إلا الطيب، وقد قال - عزَّ اسمُه -: ﴿ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ﴾ ، فهذه سنةُ الله - عز وجل -، لا يليقُ به إلا الطيبُ من الأقوال والأفعال من الخلق، ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾

    فكانت الطيبات كلها له ومنه وإليه، له مُلكًا ووصفًا، ومنه مجيئُها وابتداؤها، وإليه مصعَدها ومُنتهاها.

    ولما أتى بهذا الثناء على الله تعالى التفَت إلى شأن الرسول الذي حصل هذا الخيرُ على يديه فسلَّم عليه أتمَّ سلامٍ مقرونًا بالرحمة والبركة، فيقول المُتشهِّد: «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته»، والسلامُ اسم الله - عز وجل -؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله هو السلام»؛ رواه البخاري. وقال - عز وجل -: ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ ﴾

    فيكون المعنى: أن الله تعالى يتولَّى رسولَه - صلى الله عليه وسلم - بالحفظِ والكلاءة والعناية.

    والسلام أيضًا بمعنى: التسليم، كما قال - عز وجل -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ فهو دعاءٌ وتحية.

    ثم يُسلِّمُ المُتشهِّد على نفسه وعلى من معه من المُصلِّين والملائكةِ الحاضرين، وقيل: بل جميعُ أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذلك بقوله: «السلامُ علينا وعلى عباد الله الصالحين»، وعبادُ الله الصالحون: هم كل عبدٍ صالحٍ في السماء والأرض من الآدميين والملائكة والجن من الأحياء والأموات، وعبادُ الله: هم الذين تعبَّدوا الله؛ أي: تذلَّلوا له بالطاعة امتثالاً لأمره واجتنابًا لنهيه، وأشرفُ وصفٍ للإنسان أن يكون عبدًا للإنسان لا عبدًا لهواه، فإذا سمِع أمر ربه قال: سمِعنا وأطعنا.

    وعبادُ الله الصالحون هم الذين صلُحت سرائرُهم وظواهِرهم بإخلاص العبادة لله ومُتابعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

    ثم ختمَ هذا المقام بعقد الإسلام، وهو: التشهُّد بشهادة الحق والتوحيد: «أشهد أن لا إله إلا الله»، ولا إله إلا الله كلمةُ التوحيد التي بعثَ الله بها جميعَ الرسل، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾

    ومعناها: لا معبود حقٌّ إلا الله.

    ثم يقول المُتشهِّد: «وأشهد أن حمدًا عبده ورسوله»، فرسولُ الله الخاتَم هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب القرشي الهاشمي، بعثَه الله - عز وجل - بمكة أم القرى وأحب البلاد إلى الله، وهاجر إلى المدينة، وتُوفِّي فيها - صلى الله عليه وسلم -.

    فهو عبدٌ لله، ليس له في العبادة شرك، وقد أمره الله تعالى أن يقول:﴿ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ﴾ ، وقال له في آية أخرى: ﴿ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ ﴾، فهو عبدٌ من العباد، لكنه أفضلُهم، ورسولٌ من الرسل، لكنه أشرفُهم.

    وهو - صلى الله عليه وسلم - أشد الناس خشيةً لله وأقومهم تعبُّدًا لله، حتى إنهم كان يقوم مُصلِّيًا حتى تتورَّم قدماه، فيُقال له: لقد غفر الله من ذنبك ما تقدَّم وما تأخَّر، فيقول: «أفلا أكون عبدًا شكورًا»؛ رواه مسلم.

    ومعنى: ورسوله؛ أي: مُرسَله، أرسله الله - عز وجل - وجعله واسطةً بينه وبين الخلق في تبليغ شرعه؛ إذ لولا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما عرَفنا كيف نعبد الله - عز وجل -، فكان - عليه الصلاة والسلام - رسولاً من الله إلى الخلق، ونِعم الرسول، ونِعم المُرسِل، ونِعم المُرسَل به، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - هو رسولٌ مُرسلٌ من الله، وهو أفضل الرسل خاتمُهم وإمامُهم، لما جُمِعوا له ليلة المِعراج تقدَّمهم إمامًا مع أنه آخرُهم مبعثًا - عليه الصلاة والسلام -، كما روى ذلك الإمام أحمد.

    أيها المسلمون:
    هذا ما يقوله المُصلِّي حين يجلسُ في التشهُّد في الركعة الثانية من صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وأما الجلوس للتشهُّد الأخير قبل السلام فيأتي بهذا التشهُّد أيضًا، ويزيدُ عليه الصلاةَ على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيقول بعد الشهادتين: «اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وبارِك على محمد وعلى آل محمد، كما بارَكتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد».

    وفي "الصحيحين" عن كعب بن عُذرة - رضي الله عنه - قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقُلنا: قد عرفنا كيف نُسلِّم عليك، فكيف نُصلِّي عليك؟ قال: «قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صلَّيتَ على إبراهيم إنك حميدٌ مجيد».

    وفي "الصحيحين" أيضًا عن أبي حميدٍ الساعدي أنهم قالوا: يا رسول الله! كيف نُصلِّي عليك؟ قال: «قولوا: اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى أزواجه وذريته، كما صلَّيتَ على إبراهيم، وبارِك على محمدٍ وعلى أزواجه وذريته، كما بارَكتَ على إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد». وفي رواية عند مسلم: «كما بارَكتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميدٌ مجيد، والسلام كما قد علِمتم، أو كما قد عُلِّمتم».

    ومعنى: صلِّ على محمد؛ قيل: إن الصلاة من الله: الرحمة، وقيل: ثناؤه عليه في الملأ الأعلى، كما أخرجه البخاري مُعلَّقًا بصيغة الجزم، ولفظُه: صلاة الله: ثناؤه عليه عند الملائكة.

    وآل محمد: هم قرابتُه المؤمنون من بني هاشم ومن تفرَّع منهم، وقيل: المقصود: أتباعُه على دينه.

    كما صلَّيتَ على آل إبراهيم؛ أي: كما أنك - سبحانك - سبقَ الفضلُ منك على آل إبراهيم فألحِق الفضلَ منك على محمدٍ وآله.

    وبارِك على محمدٍ وعلى آل محمد؛ أي: أنزِل عليه البركة، وهي: كثرةُ الخيرات ودوامُها واستمرارُها، ويشملُ البركةَ في العمل والبركةَ في الأثر.

    إنك حميدٌ مجيد: حميدٌ؛ أي: حامدٌ لعباده وأوليائه الذين قاموا بأمره، ومحمودٌ يُحمَد - عز وجل - على ما له من صفاتِ الكمال وجزيلِ الإنعام.

    وأما المجيد: فهو ذو المجد، والمجدُ هو العظمةُ وكمال السلطان، فتأمَّل جمالَ هذه التحيات وكمالها وحُسنَها وجمالَها، وتدبَّر معانيها حين تزدلِفُ بها إلى ربك في جلوس التشهُّد وأنت خاشعٌ مُتأدِّب.

    فالحمدُ لله الذي هدانا إليها، وأنعمَ بها علينا.

    اللهم بارِك لنا في الكتاب والسنة، وانفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

    الخطبة الثانية
    الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الصادق الأمين، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أيها المسلمون:
    وقد جاءت السنةُ بالترغيب في الدعاء بعد التشهُّد وقبل السلام، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن مسعود بعد ما علَّمه التشهُّد: «ثم يتخيَّر من الدعاء ما شاء». وفي "الصحيحين": «ثم يتخيَّر من الدعاء أعجبه فيدعو به».

    والأفضلُ أن تأتي أولاً بالدعاء الوارد في السنة ثم تدعو بعد ذلك بما تحبُّ من خيرَي الدنيا والآخرة، وقد جاءت السنةُ بأدعيةٍ تُقال في هذا الموضع؛ منها:
    ما جاء في "الصحيحين" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا فرغَ أحدُكم من التشهُّد فليتعوَّذ بالله من أربع: من عذاب القبر، ومن عذاب جهنم، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنةِ المسيح الدجَّال».

    وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُعلِّمُ أصحابَه هذا الدعاء كما يُعلِّمُهم السورةَ من القرآن، ولذلك فإن هذا الدعاء في هذا الموضع مُستحبٌّ استحبابًا شديدًا؛ بل إن من العلماء من قال بوجوبه.

    وعن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو في الصلاة: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجَّال، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات، اللهم إني أعوذ بك من الأمثم والمغرَم». فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذُ من المغرَم؟! فقال: «إن الرجل إذا غرِم حدَّث فكذَب، ووعدَ فأخلَف»؛ متفق عليه.

    والمراد بفتنة المحيا: جميعُ الفتن الواقعة في الحياة مما فيها اختبارٌ للمرء في دينه؛ كفتنة المال، وفتنة النساء، وفتنة الأولاد والجاه، وجميع فتن الشُّبُهات والشهوات.

    وأما فتنة الممات: فهي سؤال الملَكَين للميت في قبره عن ربه ودينه ونبيِّه، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنه أُوحِيَ إليَّ أنكم تُفتَنون في قبوركم مثل أو قريبًا من فتنة المسيح الدجَّال»؛ رواه البخاري.

    ومن فتنة الممات: ما يحدثُ عند الاحتضار من سوء الخاتمة وإغواء الشيطان للإنسان، قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «إن أحدَكم ليعمَلُ بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبقُ عليه الكتاب فيعملُ بعمل أهل النار».

    وأشد ما يكون الشيطان حِرصًا على إغواء بني آدم في تلك اللحظات، والمعصوم من عصمَه الله.

    والمرادُ بفتنة المسيح الدجَّال: ما يحصُل به من الإضلال والإغواء بما معه من الشبهات، وخصَّه بالذكر مع أنه من فتنة المحيا؛ لعِظم فتنته.

    والمأثمُ: هو كل قولٍ أو فعلٍ أو نيةٍ يأثَمُ بها الإنسان.

    والمغرَم: هو كل ما يغرَمه الإنسان بسبب دَينٍ أو جنايةٍ أو مُعاملةٍ، ونحو ذلك.

    ومما ورد من الدعاء أيضًا: «اللهم اغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرت، وما أسرَرتُ وما أعلَنتُ، وما أسرفتُ، وما أنت أعلمُ به منِّي، أنت المُقدِّم وأنت المُؤخِّر، لا إله إلا أنت»؛ أخرجه مسلم.

    ومما ورد أيضًا: «اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرِك وحُسن عبادتك». أوصى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُعاذًا أن يقولَه في دُبر كل صلاة.

    ومما ورد من الدعاء: «اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا غفر الذنوبَ إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم». أوصى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أبا بكرٍ أن يقولَه في الصلاة، كما في "صحيح البخاري".

    والأولَى أن يُقال في أحد موضِعَيْ إجابة ادعاء في الصلاة، وهما: السجود، أو بعد التشهُّد وقبل السلام.

    وبعد ذلك يدعو المسلم بما شاء من خيرَي الدنيا والآخرة.

    اللهم فقِّهنا في الدين، واجعلنا من أتباع سيد المرسلين.

    هذا وصلُّوا وسلِّموا على خير البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، وارضَ اللهم عن الأئمة المهديين، والخلفاء المَرْضِيِّين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابة نبيك أجمعين، ومن سار على نهجهم واتبع سنتهم يا رب العالمين.

    اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.

    اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحره، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.

    اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاة أمورنا

    اللهم ادفع عنا الغلا والوبا، والربا والزنا، والزلازل والمِحَن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بَطَن.

    اللهم أصلِح أحوال المسلمين، اللهم أصلِح أحوال المسلمين، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم اجمعهم على الحق والهدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، واحفظ ديارهم، وأرغِد عيشَهم، واجعل كل قضاءٍ قضيتَه لهم خيرًا.

    اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين، واجمعهم على الحق يا رب العالمين.

    اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونك.

    ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾

    اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم، إنك سميع الدعاء.

    ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتُب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

    سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين






    *******************************************

    خطبة اليوم لفضيلة الشيخ : صالح آل طالب








    تعليق

    • سُلاف
      مشرفة المواضيع الإسلامية
      من مؤسسين الموقع
      • Mar 2009
      • 10535





      المسؤوليـــة فــي الإســـلام








      الخطبة الأولى:

      الحمد لله الذي تفرّد بالعز والجلال، وتوحّد بالكبرياء والكمال، وجلّ عن الأشباه والأشكال، ودل على معرفته فزال الإشكال، وأذل من اعتز بغيره غاية الإذلال، وتفضل على المطيعين بلذة العبادة والإقبال، بيده ملكوت السماوات والأرض ومفاتيح الأقفال، لا رادّ لأمره ولا معقب لحكمه وهو الخالق الفعال.

      وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو علي كل شيء قدير، هو الأول والآخر والظاهر والباطن الكبير المتعال، لا يحويه الفكر، ولا يحده الحصر، ولا يدركه الوهم والخيال.

      ما في الوجود سواك رب يعبد *** كلا ولا مولى سواك فيُقصدُ
      يا من له عنت الوجوه بأسرها *** ذلاً وكـل الكائنات توحِدُ
      أنت الإله الواحد الفرد الذي *** كل القلـوب له تقر وتشهدُ

      وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبدُ الله ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، الذي أيّده بالمعجزات الظاهرة، والآيات الباهرة، وزينه بأشرف الخصال ورفعه إلى المقام الأسنى، فكان قاب قوسين أو أدنى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته واقتدى بهديه ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين، ونحن معهم يا أرحم الراحمين.

      أما بعد:

      عباد الله: لقد كان من أعظم توجيهات الإسلام لتربية الفرد والجماعة الدعوة إلى تحمل المسؤولية والقيام بها على أكمل وجه، ورتب على ذلك الفلاح في الدنيا والنجاة يوم القيامة؛ قال تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، وقال تعالى: (وَقِفُوَهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ) [، وقال الله تعالى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)، وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته". البخاري

      ولقد ضرب الله -سبحانه وتعالى- في القرآن الكريم الكثير من المواقف والأحداث على تحمل المسؤولية؛ قال تعالى : (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ)

      إنه رجل من أقصى المدينة يسعى، لماذا يأتي؟! لإنقاذ الموقف، لإعلان كلمة الحق: (يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينََ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [يس:20، 21]، ليس له غرض، ولم يكن سعيه خوفاً من فوات صفقة تجارية -مثلاً- ولا خوفاً على نفسه أو روحه، بل بالعكس كان يسعى إلى حتفه وهو يعلم ذلك؛ لأنه قُتل بسبب جهره بكلمة الحق، وتعزيزه لموقف النبيين المرسلين، فقتل فقيل له: ادخل الجنة، فدخل الجنة: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) [يس:26-27]، وقال -سبحانه وتعالى-: (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) [الإسراء: 13، 14].

      والمسؤولية إما أن تكون فردية يقوم بها الفرد تجاه دينه وأمته ومجتمعه وأسرته، وإما أن تكون جماعية تقوم بها الأسر والمجتمعات والشعوب والمنظمات والأحزاب والجماعات، وهذا التباين بين البشر هدفه تحديد المسؤوليات ومن يقوم بها؛ قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل: 93].

      أيها المؤمنون عباد الله: الكل يدّعي أنه يشعر بالمسؤولية تجاه دينه، تجاه نفسه، تجاه زوجته، تجاه أولاده، تجاه إخوانه المسلمين بنصرتهم والدعاء لهم، تجاه منصبه ووظيفته، تجاه مجتمعه ووطنه وأمته، الكل يدّعي ذلك، لكن الواقع يوضح أن الفرق شاسع بين الادعاء وبين الأداء والشعور بالمسؤولية وممارستها في واقع الحياة.

      هذا سيدنا عمر ومعه سيدنا عبد الرحمن بن عوف يتجولان في المدينة، رأيا قافلةً في ظاهر المدينة، فقال لعبد الرحمن: تعال نحرسها لوجه الله، فإذا بطفل يبكي، فقال لأمه: أرضعيه، فأرضعته، ثم بكى، قال: أرضعيه، -يبدو أنه كان عصبي المزاج-، في المرة الثالثة قال: يا أمة السوء: أرضعيه، قالت له: ما شأنك بنا؟! إنني أفطمه، قال: ولمَ؟! قالت: لأن عمر -ولا تعلم أنه عمر- لا يعطينا العطاء إلا بعد الفطام. يُروى أنه ضرب جبهته، وقال: ويحك يا ابن الخطاب!! كم قتلت من أطفال المسلمين؟! فلما صلّى الفجر بالناس، ما سمع الناس قراءته من شدة بكائه، وأمر أن يعطى كل مولود في الإسلام راتبًا يجري عليه شهرياً.

      وهذه مسؤولية المنصب وولاية أمر الناس وسياسة حياتهم وفي جميع شؤونهم، فالواجب على من بلغ هذه المنزلة وهذه المرتبة أن يحفظ دينهم وأموالهم وأعراضهم، وأن يجتهد في تربيتهم وتزكية أخلاقهم. قال شيخ الإسلام: "الواجب بالولايات: إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانًا مبينًا، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم". السياسة الشرعية (1/37).

      هذا عمر بن عبد العزيز يعطي درساً في المسؤولية لعامله على بيت مال المسلمين في اليمن وهب بن منبه، فكتب وهب إلى عمر بن العزيز -رضي الله عنه-: إني فقدت من بيت مال المسلمين ديناراً. فكتب إليه: "إني لا أتهم دينك ولا أمانتك، ولكن أتهم تضييعك وتفريطك، وأنا حجيج المسلمين في أموالهم، ولِأدناهم عليك أن تحلف، والسلام". وكأنه يقول له: عليك أن تحلف بالله لجميع المسلمين أنك أضعت هذا الدينار دون أن يكون منك تفريط أو تقصير.

      وقد بيّن -صلى الله عليه وسلم- خطورة الغلول وأن يأخذ المرء مالاً أو متاعًا ليس له فيه حق؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم، فذكر الغلول فعظّمه، وعظم أمره، ثم قال: "لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله: أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة، فيقول: يا رسول الله!! فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، يقول: يا رسول الله: أغثني، فأقول: لا أملك شيئاً، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح، فيقول: يا رسول الله: أغثني، فأقول: لا أملك شيئاً، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رأسه رقاع تخفق، فيقول: يا رسول الله: أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت -الذهب والفضة-، فيقول: يا رسول الله!! فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك". مسلم (1831).

      أين مسؤولية الوالدين تجاه أولادهما من التربية والرعاية والنصح والاهتمام؟! قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [التحريم: 6]، قال الطبري -رحمه الله-: "يقيهم: أن يأمرهم بطاعة الله، وينهاهم عن معصيته، وأن يقوم عليهم بأمر الله يأمرهم به ويساعدهم عليه، فإذا رأيت لله معصية ردعتهم عنها وزجرتهم عنها". تفسير الطبري (12/156).

      وأين مسؤولية المعلم تجاه طلابه من أبناء المسلمين، وهل قام بواجبه وكان قدوةً حسنة لهم؟! وأين مسؤولية الموظف في إتقان الأعمال وإنجازها والحفاظ على ما تحت يده من أموال وغيرها؟! أين مسؤولية الأمن والجيش في حفظ أمن البلاد وحفظ الأموال والدماء والأعراض وحفظ سيادة البلاد والضرب بيد من حديد على المعتدين والمخربين والمفسدين في الأرض؟! وأين مسؤوليتهم في إحقاق الحق ونصرة المظلوم والدفاع عن الضعيف؟! وأين مسؤولية القاضي والطبيب والمهندس وشيخ القبيلة؟! أين مسؤولية الجميع؟! قال الله تعالى: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) [الأعراف: 6]، قال السدي: "فلنسألن الأمم: ما عملوا فيما جاءت به الرسل؟! ولنسألن الرسل: هل بلغوا ما أرسلوا به؟!". تفسير الطبري (5/430).

      فلا يوجد أحد إلا وعليه مسؤولية فردية يجب أن يقوم بها ويؤديها، ولا تسقط عنه تحت أي مبرر إذا كان قادراً عليها؛ يقول ابن مسعود: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اقرأ عليّ القرآن"، قال قلت: يا رسول الله: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: "إني أشتهي أن أسمعه من غيري"، فقرأت النساء، حتى إذا بلغت قوله: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) [النساء: 41]، هناك غمزني رجل إلى جنبي فرفعت رأسي فرأيت دموعه -صلى الله عليه وسلم- تسيل على وجنتيه. رواه البخاري.

      إن استشعار الموقف والمسؤولية في ذلك اليوم العظيم، يوم القيامة، هو الذي جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يبكي حتى سالت دموعه على وجنتيه الشريفتين.

      عباد الله: إن الواجبات كثيرة، والمسؤوليات عظيمة وإنها ليسيرة على من يسرها الله له، وذلك بصدقه وإخلاصه واستشعاره للأمانة الملقاة على عاتقه والتي يُسأل عنها يوم القيامة؛ قال تعالى: (هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُون) [الصافات: 21-23].

      لقد ضاعت حضارتنا وفسدت أحوالنا وضعف إنتاجنا عندما بنينا حياتنا على ثقافة التبرير والتنصل من المسؤوليات، وإن طريق الفلاح والنجاح والإنتاج والبناء تبدأ في أي مجتمع من المجتمعات أو شعب من الشعوب عندما يدرك كل فرد واجباته ومسؤولياته ويقوم بها، وهو بذلك يؤدي واجباً دينياً ومطلباً ضروريًا في الحياة.

      فنسأله -سبحانه وتعالى- أن يعيننا على القيام بمسؤولياتنا، وأن يأخذ بنواصينا إلى كل خير.

      قلت قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه.


      الخطبة الثانية:

      عباد الله: وهناك مسؤوليات جماعية يقوم بها جميع الناس في المجتمع، سواء كانوا أحزابًا أم منظمات أم جماعات، وهي من الأهمية بمكان، والتفريط بها والتساهل في القيام بها يؤدي إلى فساد المجتمعات وزوال الحضارات وكثرة الصراعات، وقد تتعطل الحياة في كثير من جوانبها المختلفة.

      من هذه المسؤوليات: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخيرية الأمة تبدأ من هنا؛ قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران:110].

      وحرية الفرد يجب أن لا تعارض مصلحة الجماعة، والسكوت عن الأخذ على يدي الظالم والمعتدي والمفسد في الأرض جريمة كبيرة وخلق سيئ وآثاره مدمرة على الجميع، ولذلك جعل -سبحانه وتعالى- هذه الصفة من صفات المؤمنين المهمة والضرورية، فقال سبحانه: (التَّآئِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمرون بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [التوبة: 112].

      ومما أُثر عن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- قوله: "كان يُقال: إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصَّة، ولكن إذا عُمِل المنكر جهاراً استحقوا العقوبة كلهم".

      إن وجود المصلحين في الأمة هو صمَّام الأمان لها، وسبب نجاتها من الهلاك العام، ولهذا قال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود: 117]، ولم يقل: صالحون.

      ومن هذه المسؤوليات الجماعية: حفظ السلم الاجتماعي، ونشر الأمن والمحافظة على الدماء والأعراض والأموال، والتآلف والتآخي والتراحم، ونبذ العصبية والفرقة والنعرات الجاهلية، سواء كانت حزبية أم مذهبية أم مناطقية.

      إن بناء الأوطان يحتاج إلى التعاون والتوافق، على الأقل في الثوابت التي تحفظ الدين والأرض والإنسان، ولا بأس أن نختلف في طرق العمل ووسائل البناء وأساليب العمل والإنجاز، فهذه حقيقة بشرية لا يمكن أن تنتهي من أي مجتمع.

      ومن هذه المسؤوليات الجماعية مسؤولية التقيد والالتزام بالأنظمة والقوانين التي تنظم حياة المجتمع، وتطبيقها على جميع الناس، وهذا دليل على التطور الثقافي والاجتماعي الذي وصلت إليه الدول والشعوب والمجتمعات، ولا حياة سليمة وراقية ومزدهرة إلا بقوانين تنظم علاقات الناس مع بعضهم، وعلاقاتهم مع غيرهم، وواجباتهم وحقوقهم.

      والغرب والشرق لم ينهض ولم يتطور إلا بقوانين نظمت حياتهم، فكيف ونحن أمة النظام والقانون!! فديننا الحنيف نظّم جميع جوانب الحياة، وعندما التزمها المسلمون كانوا بناة حضارة عريقة ما زالت مآثرها إلى اليوم.

      وهناك مسؤولية الإعلام، فدوره كبير في توجيه الرأي العام، وفي ترسيخ القناعات حسنها وقبيحها، وعلى أهل الإعلام أن يعوا هذا الخطر العظيم، وأن يعرفوا أن على عاتقهم مسؤولية عظيمة، إن لم يقوموا بها حق القيام فإن كثيرًا من المبادئ والقيم الحسنة ستختفي من النفوس وتضيع الكثير من الحقائق وتزور الكثير من الوقائع، عندها تحدث الكثير من المشاكل والاختلالات والفتن والصراعات.

      فأين التربية على القيم والأخلاق؟! وأين التربية وتوجيه الجماهير للتنافس على بناء الأوطان؟! وأين الإعلام الذي يعزز الأمن وحب الانتماء للوطن وينشر المحبة ويحارب العصبية والفرقة بين الناس؟!

      فاتقوا الله -عباد الله- وأدوا الحقوق وقوموا بالواجبات والمسؤوليات، وأدوها كما أمرتم، واحذروا ثقافة التبرير للأخطاء والتقصير في الأعمال، وأحسنوا العمل وانشروا الخير وأصلحوا ذات بينكم تفلحوا في الدنيا والآخرة.

      اللهم ألّف على الحق قلوبنا، وأصلح فساد أحوالنا، وولِّ علينا خيارنا برحمتك يا أرحم الراحمين.

      هذا؛ وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.





      *************************************************


      خطبة اليوم لفضيلة الشيخ : حسان أحمد العماري









      تعليق

      • سُلاف
        مشرفة المواضيع الإسلامية
        من مؤسسين الموقع
        • Mar 2009
        • 10535






        الكسل ، المرض الخفي







        الخطبة الأولى:

        الحمد لله الآمر بالعمل، والناهي عن الكسل سبحانه -عز وجل-، قسم الرزق، وقدر الأجل، وله الحمد على ما حصل، ونعوذ به من العجز والكسل، والجبن والبخل والفشل.
        وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.

        أما بعد:

        فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-.

        أيها المؤمنون: لقد كان جيل الصحابة -رضي الله عنهم- على درجة عالية من الهمة والنشاط، اقتضت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يدعوهم في كثير من المواقف إلى الحد من هذا النشاط الزائد، وإلى العودة إلى مستوى القصد والاعتدال، قائلا لهم: "خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ".

        وحين ضعفت العزائم والهمم، صار البعض من الناس حين يطالب بأداء الفرائض والواجبات، يكون جوابه إما أن يقول: أنا عاجز عن ذلك، أو كسلان.

        وأصبحنا بحاجة كبيرة للاستعاذة بالله من العجز والكسل.

        وقد علمنا حبيبنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ بالله من العجز والكسل؛ فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "كانَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللَّهمَّ إِني أَعُوذ بك من العَجْز والكَسَل، والجُبْنِ والهَرَمِ والبُخْلِ، وأعوذ بك من عذابِ القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات"[أخرجه مسلم].

        عباد الله: إنما استُعِيذَ بالله من الكسل؛ لأنه يُبعِد عن الأعمال الصالحة، ولأن الكسل من أسباب الخسارة والوقوع في أسباب المعاصي والسيئات، ولأن الكسل فيه تثاقل عن المصالح الدينية والدنيوية، فيمنع من القيام بالحقوق الواجبة.

        عباد الله: العجز هو: ترك العمل مع عدم القدرة على عمله.

        والكسل: ترك العمل مع القدرة على عمله؛ لعدم وجود الدافع للعمل، وقلة الرغبة في الخير مع إمكان عمل العبادة أو الطاعة.

        عباد الله: وقد ذم الله -تعالى- الكسل والتباطؤ، وجعلهما من صفات المنافقين؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا * وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَنْ لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيداً * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللَّهِ لَيَقُولَـنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) [النساء: 71-73].

        وقال سبحانه: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) [النساء: 142- 143].

        وقال سبحانه: (قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ * وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ) [التوبة: 53 -54].

        وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏‏-صلى الله عليه وسلم-: "‏‏الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ"[رواه مسلم].

        عباد الله: الكسل: مرض خفي، وداء مهلك، يعوق نهضة الأمم والشعوب، ويمنع الأفراد من العمل والسعي النافع، والبذل والعطاء.

        عباد الله: ما أصاب الكسل أمةً إلا أضعفها وأخَّرها ودمَّرها، وما أصاب شعباً إلا ضيَّعه وجهَّله، وأفشَله وأضعفه، وما أصاب فرداً إلا أمرضه وأخزاه وأذله وحقَّره.

        عباد الله: وللكسل أسباب كثيرة؛ منها:

        النفاق، وارتكاب الذنوب والمعاصي، وترك الصلوات، وخاصة صلاة الفجر، وقلة ذكر الله، وكثرة الطعام والشراب والسهر، وكثرة النوم، وطول الأمل، وصحبة أهل الكسل.

        عباد الله: ويُعَالجُ الكسل بالإيمان الحقيقي المؤدي إلى العمل النافع، وقد اقترن العمل بالإيمان في عشرات الآيات: (الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ)[البقرة: 25].

        ومن علاج الكسل: قراءة أذكار الصباح والمساء، والصلاة على وقتها، والمحافظة على الوضوء، وعدم سماع ومشاهدة المنكرات والمحرمات، والإكثار من الاستغفار، والصلاة على النبي –صلى الله عليه وسلم-.

        عباد الله: ومن علاج الكسل: وضع أهداف عالية وغالية، ويمكن تقسيم هذه الأهداف إلى: أهداف قريبة، وأهداف بعيدة؛ فمن الأهداف القريبة مثلاً: حفظ القرآن.

        ومن الأهداف البعيدة: إخراج الأمة من حالة التخلف، والتأخر عن الأمم.

        ولا ننسى الهدف الأساسي، وهو إقامة العبودية لله، والوصول إلى رضا الله -تعالى-، والفوز بجنته.

        عباد الله: ومن علاج الكسل: المحافظة على الصلوات، وخاصة صلاة الفجر؛ فعن أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنْ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ"[أخرجه البخاري].

        عباد الله: ومن علاج الكسل وأهمها: الدعاء خاصة وقت السحر، والسجود والتضرع لله مغير الأحوال أن يرزقنا حالاً خير من هذا الحال، ولنتذكر هذه الأحاديث:

        قوله صلى الله عليه وسلم: "ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ"[أخرجه الترمذي والطبراني وحسنه الألباني].

        وقوله صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ فِي اللَّيْلِ لَسَاعَةً لا يُوَافِقُهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ -عز وجل- فِيهَا خَيْرًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ إِلا أَعْطَاهُ، وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ"[أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ].

        وقوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ فِي الْجُمُعَةِ سَاعَةً لا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا خَيْرًا إِلا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ"[متفق على صحته].

        بارك الله لي ولكم...


        الخطبة الثانية:

        الحمد لله، الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعلم ما كان وما يكون، وما تسرون وما تعلنون، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق المأمون، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين كانوا يهدون بالحق وبه يعدلون، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم يبعثون.

        أما بعد:

        فيا عباد الله: ينبغي لمن يرجو زكاة نفسه :وإصلاحها أن يستعين بالله -عز وجل- دائما ويدعوه، وكان صلى الله عليه وسلم يسأل الله -عز وجل- أن يعيذه من جميع الصفات الذميمة، فكان يقول في أذكار الصباح والمساء: "رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر".

        عباد الله: إن ديننا الإسلامي يخاطب أتباعه بقول الله: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 133].

        لا يقبل من أتباعه الكسل والخمول، والعجز والفتور، وضعف الهمة.

        إن ديننا الإسلامي يحثنا على الهمة العالية، وأن تكون قلوبنا معلقةً بالله، مخلصين له، لكي يحصل لنا الأجر والثواب، والعاقبة الحسنة.

        نسأل الله -سبحانه- النشاط والجد في الطاعة، والإعانة على ذلك.



        *********************************************


        خطبة اليوم لفضيلة الشيخ : عايد التميمي







        تعليق

        • سُلاف
          مشرفة المواضيع الإسلامية
          من مؤسسين الموقع
          • Mar 2009
          • 10535







          الصـدقــة الجـاريـــة








          الحمد لله ، أما بعد

          فالأعمار قصيرة، والأعمال قليلة، والأماني عريضة، والنقلة من هذه الدنيا قريبة، غير بعيدة .
          ولكن الله لطف بعباده فسد نقصهم، وقوى ضعفهم، ومن عليهم بوصل في أعمالهم بعد انقطاع آجالهم، فهو في عالم الغيب عاين ما يوعد به ومع ذلك فأجره لم ينقطع .
          فما أعظم الربح، وأكرم بهذه التجارة
          يقول الله تعالى (إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدَّموا وآثارهم)
          فـ(ما قدموا) هي أعمالهم التي باشروها، وحرصوا عليها في حياتهم .
          فعلوا ما استطاعوا من الواجبات، واستعانوا بالله على ترك المنهيات تمثلوا قول النبي صلى الله عليه وسلم (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فائتوا منه ما استطعتم)
          فهل لك أيها الموفق بعمل بل بأعمال لا ينقطع أجرها بانقطاعك من الدنيا فهي أجور تتوالى عليك يرفع الله بها درجاتك، ويحط بها من خطيئاتك .
          عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ) رواه مسلم .
          فأولها الصدقة الجارية فهي ليست لقمة أكلها فقير، أو لباسا أبلاه مسكين، بل جارية يتعاقب أناس على الانتفاع بها، يرثها جيل بعد جيل إلى ما شاء الله فما أعظم النفع !
          فمن الصدقة الجارية الأوقاف التي تسمى الأسبال كبناء المساجد والمدارس لتعليم العلم النافع ودور القرآن، وكذا المساكن للفقراء واليتامى ونحوهم .
          وكل شيء تبقى عينه فهو من الصدقة الجارية الذي ينفع الله به.
          فالصدقة الجارية هي وقف، والوقف: هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة لعموم المنتفعين فلا يباع، ولا يورث ولا يوهب
          وحينما يذكر الوقف فلا ننسى الوقف الأول في الإسلام وقف الفاروق عمر بن الخطاب يقول ابن عمر أصاب عمر أرضا بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال يا رسول الله: إني أصبت مالا بخيبر لم أصب مالا أنفس عندى منه فما تأمرني فيه فقال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها غير أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث قال فتصدق بها عمر في الفقراء وفي القربى والرقاب وفى سبيل الله وابن السبيل والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقا غير متمول فيه\" وفى لفظ \"غير متأثل\" متفق عليه .
          وفي هذا الحديث عدة دلالات لعلها تبقى على ذكر منك فأول ما يلحظ في هذا الوقف أن عمر رضي الله عنه استشار في وقفه ماذا يفعل به وأين يجعله ؟
          وهذا هو الذي يتعين على كل من أراد أن يوقف بيتاً أو مزرعة أو غيرها فاستشر طلبة العلم والعارفين بأحوال الناس وحاجة البلد الذي توقف فيه ولا تمش على طريقة الأجداد والآباء السابقين؛ فلكل زمن ما يناسبه فلقد كانت الأضحية والعشاء في رمضان، أو عموماً من أنفس الصدقات .
          وأما الآن فقد وسع الله على المسلمين فصارت الوصايا بهذه من أكلف الوصايا وأقلها نفعاً وصار الورثة يتدافعونها كل يتنصل منها ويرجو السلامة من مسؤوليتها
          فالحكمة والنصح للموصي أن يقال انظر إلى ما يكون أكثر حاجة للناس، ووسع دائرة النفع وأعط صلاحية للوصي بتبديل ونقص وزيادة حسب المصلحة بعد المشاورة وقد سمعت مصارف وقف عمر رضي الله عنه
          فتصدق بها عمر في الفقراء وفي القربى والرقاب وفى سبيل الله وابن السبيل والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقاً.
          فاجعل في وقفك مجالا لإطعام الطعام والكسوة في داخل البلد وخارجها .
          وكذا دعما للمناشط الدعوية وطباعة الكتب والأشرطة والبرامج الحاسوبية النافعة والمواقع الالكترونية الموثوقة .
          وكذا علاج المرضى وشراء الأدوية وتأمين الأجهزة الطبية لغسيل الكلى أو غيرها
          ولا حرج عليك أن تجعلها استقلالا أو مشاركة إن قل مالك (ولكل درجات مما عملوا) .
          فالمشاركة في العمل وإن كان أصل الوقف قائماً، واحتاج إلى توسيع أو تطوير فإن للمشارك ما يرجى لصاحب الأصل، وفضل الله واسع وهذا ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم لما أراد عثمان (رضي الله عنه) توسيع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
          فعن عبيد الله الخولاني: أنه سمع عثمان بن عفان يقول عند قول الناس فيه حين بنى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم إنكم أكثرتم – أي بالإنكار عليه - وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة )
          فاعتبر عثمان رضي الله عنه تجديد المسجد وتوسعته داخلا في العمارة وموعودا صاحبه ببيت في الجنة .
          فطيبيوا نفساً يامن ساهمت في عمارة مسجد أو تجديده على قلة من مالكم أو وفرة .
          أيها الإخوة: لا يخفاكم أن الأوقاف كي يستمر نفعها فلا بد لها من ناظر ناصح فبعد أن وفقك الله لما وقفته تبتغي بذلك وجه الله فانظر بعد ذلك فيمن يكون ناظراَ يقوم على الوقف بعمارة أو إصلاح إن لزم ذلك، وكذا بجمع دخله وتفريقه واختيار الأنفع من جهات الصرف وهذه الأعمال ليست بالهينة في زمن الأشغال والانشغال فأعينوا أيها الموقفون النظار على نظارتهم وذلك بجعل نصيب من الوقف مقابل النظارة ولا تتكل على احتساب الناظر أو كونه من أولادك الصالحين فالنفوس قد تستشرف لشيء من المال إذا خرجت غلته فاقطع استشرافها بنصيب مجزئ وبالغ فيه ثم الناظر إن استعف أعفه الله وإن أخذ فهو أجرة أحلها الله .



          الحمد لله
          فلعلك أدركت أن الصدقة الجارية عامة في كل ما يجري عليك بعد موتك، وكنت سباً في إيجادها، والمساجد تأتي في مقدمة الصدقة الجارية مع ما ورد فيها من الأجر الخاص وأن من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة .
          فهنيئاً لمن وفقه الله لبناء مسجد فلا يزال الناس يصلون فيه فيأتيه من أجرهم حيث هيأ لهم مكاناً يتعبدون فيه.
          وإن جلس فيه أحد لقراءة القرآن، أو أقيم فيه درس، أو ألقيت فيه كلمة أو محاضرة، أو وضع فيه طعام للمحتاجين في رمضان أو غيرهم فأجره من هذه كلها لا يعرف قدره إلا مقدر الأجور الذي يعطى ويجزل .
          والأجر الوارد في عمارة المساجد يشمل أن تكون في داخل البلد أو خارجها شريطة أن يتولاها الثقات عبر الطرق المعروفة .
          ويشمل أن يكون المسجد جامعاً تقام فيها الجمعة، أو هو للفروض الخمس فقط .
          ويشمل أيضاً أن يكون المسجد من المساجد التي يكثر المصلون فيها أو يقلون.
          ومن تمام بناء المساجد وليس شرطاً في حصول الأجر أن يسعى عامر المسجد في إيجاد بيوت تابعة للمسجد قريبة منه تكون عوناً لمن يتولى إمامة المسجد ومئذنته .
          وإن سعى في إيجاد وقف له دخل يصرف في صيانة المسجد، ورعاية مصالحه فهو نور على نور، وصدقة جارية إلى صدقة جارية .
          بقى أمر يرد في أذهان بعض الموقفين سواء أو أوقف مسجداً أو عمارة أو بيتاً ؟
          يا ترى هل سبيقى هذا الوقف إلى يوم القيامة ؟
          فأقول أما بقاء عينه فالله أعلم، والدنيا مبنية على التغير والزوال !
          ولهذا لو سألت أين وقف عمر الذي سبقت الإشارة إليه وهو أول وقف في الإسلام بل أين أوقاف الصحابة وما من أحد من الصحابة يستطيع أن يوقف من الصحابة إلا أو أوقف.
          كلها في عالم الغيب اندرست وجهلت ولكن ذهاب أعيانها لا يعني ذهاب أجورها.
          فالموقفون على نياتهم وأجورهم ثابتة عند ربهم، وقد سئل شيخنا ابن عثيمين (رحمه الله) أيام هدم الجامع الكبير ما شأن الذين ساهموا في بناء المسجد الأول؟
          فكان نص جوابه: أن الذين بنوه يبتغون به وجه الله تعالى، وما وعدهم النبي صلى الله عليه وسلم من الثواب فأجرهم تام، وإن هدم ما بنوه يقول تعالى في المهاجرين الذين حال الموت بينهم وبين مهاجرهم (ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما) ا.ه
          فالحمد لله على فضله وكرمه في أجره



          ***********************************************


          خطبة اليوم لفضيلة الشيخ : عبد الرحمن الدهش







          تعليق

          • سُلاف
            مشرفة المواضيع الإسلامية
            من مؤسسين الموقع
            • Mar 2009
            • 10535







            نعـمـــة الفــــراغ








            الحمد لله جامِع الناس ليومٍ لا ريبَ فيه، العالم بكلِّ ما يُظهِره العبد ويُخفِيه، أحمَدُه - سبحانه - وأستَغفِره وأتوب إليه وأستَهدِيه، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحدَه لا شريك له شهادةَ مَن عرف الحقَّ واتَّبَعَه، وعلق بعفو الله أمله وطمعه، وأسلَم وجهه لله، ومَن كان مع الله كان الله معه، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله الذي جدَّد الحنيفيَّة السمحة بعد الاندِثار، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه من المهاجرين والأنصار، وسلَّم تسليمًا.

            أمَّا بعدُ:
            فيا أيها الناس، اتَّقوا الله - تعالى - وأطِيعُوه، واشكُروا له ولا تَكفُروه، وتوبوا إليه من تَقصِيركم في حقِّه واستَغفِروه، واجتَهِدوا في طاعته طاقتَكم فقد علم ألَّن تُحصُوه، فاغتَنِموا فُسحَة الأجَل، في التقرُّب إلى الله - تعالى - بصالح العمل، والتوبة إليه من التقصير والزَّلل، وتأمَّلوا بصَفاء الأذهان، ما يمرُّ بكم من عِظات الزمان، وتدبَّروا قَوارِع القُرآن، ببصائر الإيمان، واحذَرُوا التَّمادِي في الفُسوق والعِصيان؛ فإنهما يقصمان الأعمار، ويخربان الدِّيار، ولا تركَنُوا إلى الذين ظلَمُوا فتمسَّكم النار.

            ألاَ وإنَّ الإصْرار على الاعتِداء، يُوجِب انتِصار الأعداء، والتساهُل في مُخالَطة أهل الفُجور، داعيَة إلى انتِكاس الأمور، وإذا تَراكَمت الذُّنوب، عَمِيتْ بَصائر القُلوب، وتعسَّر المطلوب، ألاَ وإنَّ من الذنوب ذنوبًا جعَل الله عُقوبتها زَوال الإيمان، والإمهال إلى أجَلٍ قريب ومَتاع قليل، وصاحبها يظنُّ أنَّ ذلك كَرامة من الرحمن، فانظُروا - رحمني الله وإيَّاكم - لأنفُسِكم نظرَ الأخيار، وتزوَّدوا من هذه الدار بالتقوى لدار القَرار؛ ﴿ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [غافر: 39، 40].

            عبادَ الله:
            ثبَت في "صحيح البخاري" - رحمه الله - عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((نِعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحَّة والفَراغ))؛ والمعنى: أنَّ الصحَّة والفَراغ فُرصتان نادِرتان في عمر الإنسان ينبغي أنْ يعمرهما بأنواع العمل الصالح، وطلب جليل المصالح، وهجر الذنوب والقَبائح، فإنَّ ذلك هو المَتجَر الرابح، أمَّا مَن ضيَّعهما فلم يعمرهما بطاعة الله، أو شغلهما بمعصية الله، فذلك قد أضاع رأسَ ماله، وتحمَّل آثام الذنوب بمعصية عَلاَّم الغيوب، فأشقى نفسه في حاله ومآله، وإنما تبيَّن له الغبن يوم التغابُن، حين يظهَر له أنَّه باعَ سعادة الأبَد بشَهوةٍ عارضةٍ وهوًى جامح، نهايتهما إلى نكدٍ وشقاوة الأبَد، فيندَم حيث لا ينفع الندَم.

            عبادَ الله:
            إنَّ الفراغ نعمةٌ من نِعَمِ الله، وهو خلوُّ الوقت من الشَّواغِل، وخلوُّ القلب من متاعب الدُّنيا وما فيه من مشاكل، فإذا مَنَّ الله على العبد براحةٍ من ذلك مثل الإجازات، ونحوها من المناسبات، فصَفَى له الزمان، وتسنَّى له الاجتهادُ فيما يقوى فيه الإيمان، ويتحقَّق به الشُّكران، فليَصرِف فراغَه في مَجالات الخير، ومُباشَرة خِصال البِرِّ، ونحو ذلك ممَّا يُكسِبه أجرًا، ويَرفَع له في العالمين ذكرًا، ويدَّخر له في الآخِرة ذُخرًا؛ من مزيد بِرِّ الوالدين وصلة الأرحام، والإحسان إلى الضُّعَفاء والمساكين والملهوفين والأيتام، والاجتهاد في طلب العلم، والأخْذ بأسباب رفعة الدرجة وتكفير الإثم؛ من عمرةٍ لبيت الله الحرام، وصلاة في مسجد النبي - عليه الصلاة والسلام - ودعوة إلى الله، ونصحٍ لعباد الله، وسعيٍ للإصلاح بين الناس، وأمر بمعروف، ونهي عن المنكر، وزيارة لأخٍ يحبُّه في الله، فمَن حقَّق ذلك كان أنفع الناس لنفسه وللناس.

            فينبغي للعبد أنْ يجتَهِد فيما تَيسَّر له من ذلك شُكرًا للنِّعمة، واغتِنامًا للمُهلة، وشُغلاً للوَقت - قبل مُضِيِّه - في الخير؛ فإنَّ الوقت في ذهاب، وإنْ لم يُشغَل بالخير شُغِل بما يضرُّ في الدنيا ويوم الحِساب، وقد أوصى - صلَّى الله عليه وسلَّم - رجُلاً من أصحابه فقال: ((اغتَنِم خمسًا قبلَ خمس - يعني: في طاعة الله -: شبابك قبل هرَمِك، وصحَّتك قبل سقمك، وغِناك قبل فَقرك، وفَراغك قبل شُغلك، وحياتك قبل مَوتك)).

            وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((بادِرُوا بالأعمال - يعني: قبل الشَّواغِل القاطعة، والعوارض الحادثة - هل تنتَظِرون إلاَّ فَقرًا منسيًا، أو غنًى مُطغِيًا، أو مرَضًا مُفسِدًا، أو هرمًا مفندًا، أو موتًا مجهزًا، أو الدجَّال، فشرُّ غائب يُنتظَر، أو الساعة، والساعة أدهَى وأمرُّ؟)).

            وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((بادِرُوا بالأعمال فِتنًا كقِطَع الليل المُظلِم؛ يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يَبِيع دينه بعرَض من الدُّنيا)).

            فشغل الوقت - يا عبادَ الله - بالأعمال الصالحة تجارةٌ رابحة ومسارعة للخيرات، وقد وعَد الله مَن كان كذلك بالمغفرة والجنَّات، وهو أيضًا من أسباب صرْف المِحَن، والنَّجاة من الفِتَن، فاشغلوا أوقاتكم، واغتَنِموا إجازاتكم، بما جعَلَه الله سبَبًا لسعادة الدُّنيا والأخرى، والنَّجاة من نارٍ تلظَّى، فعليكم عبادَ الله بالجد فيما هَداكم الله له من الخير، وتنافَسُوا في خِصال البِرِّ، قبل أنْ يقعَ أحدُكم في قبضة الموت؛ فيتحقَّق الفوت، ويُوافَى الحساب، وتنقَطِع الأسباب، ويفتَرِق الناس إلى فريقين؛ فريق في الجنة، وفريق في السعير.

            أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [الحشر: 18 - 20].

            بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

            أقول قولي هذا، وأستَغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين والمؤمنين من كلِّ ذنب، فاستغفروه يغفر لكم،إنَّه هو الغفور الرحيم.




            ************************************************

            خطبة اليوم لفضيلة الشيخ : عبد الله بن صالح القصير









            تعليق

            • سُلاف
              مشرفة المواضيع الإسلامية
              من مؤسسين الموقع
              • Mar 2009
              • 10535






              سيدنا سلمان الفارسي رضي الله عنه







              الحمد لله رب العالمين، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ.. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ.. الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
              والصلاة والسلام على رسول الله خير من تكلم بالقرآن وفهمه وبلغه، هدى الله به الإنسانية، وأنار به أفكار البشرية، وزعزع به كيان الوثنية.
              أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

              أمَّا بَعْد:
              أيها الناس: إن أكبر قضية في حياة الإنسان، هي قضية البحث عن الهداية، وقضية معرفة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فإنه لا أكبر من الله، فلا إله إلا الله، ولا إله غير الله.
              يقول عز من قائل: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ [الأنعام:19] ولذلك كانت هذه القضية هي القضية الكبرى التي ينبغي للمسلم أن يبحث عنها، فأين الباحثون عن الحقيقة الكبرى؟
              وأين الملتمسون للهداية؟
              وأين المتطلعون إلى معرفة الله؟......

              ولنقف اليوم مع صحابي جليل التمس طريق الهداية حتى أنعم الله عليها بها
              إنه سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه، سلمان ابن الإسلام الذي لما اجتمع مع نفر من العرب فسألوه عن نسبه، حيث يقول هذا: أنا قرشي، وذاك يقول: أنا قيسي، وذاك يقول: أنا تميمي، فقال:
              أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
              أتى من أرض فارس ، يتلمس الهداية، ويطلب النور ويريد لا إله إلا الله، وأبو جهل وأبو لهب وأبو طالب ، عند الركن اليماني والحجر الأسود يبغضون لا إله إلا الله ويحاربونها، فعجباً كيف يقود قدر الله وهدايته واصطفاؤه هذا الرجل من وراء بلاد فارس ، ليكون من حماة الإسلام؟ وكيف تطرد قدرة الله وعنايته هذه الشرذمة وهم عند الحجر الأسود والركن اليماني، فيموتون ويكون مصيرهم إلى نار جهنم.
              كان سلمان يعبد النار من دون الله الواحد القهار.
              وأصبح عابدو الأصنام حماة البيت والركن اليماني
              يقول عن نفسه: كنت مع أبي وكان من سدنة النار التي يسجد لها المجوس من دون الله فانشغل ذات يوم من الأيام في شغل له في مال؛ فأرسلني لأوقد النار مكانه، قال: فذهبت فأوقدت النار، فمررت في طريقي؛ فوجدت قوماً من النصارى يعبدون الله على دين المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، قال: فأعجبتني عبادتهم، وتلهيت معهم ساعة، وعدت إلى أبي في المساء، فقال لي: أين كنت؟ فأخبرته الخبر، قال: فحبسني ووضع الحديد في رجلي -لأنه خرج عن دينه، وخاف أن يرتد عن دين المجوسية ، وهكذا حماس أهل الباطل لباطلهم، فأين حماس أهل الحق لحقهم؟

              قال: فسألت الناس هل هناك من دين مثل هذا الدين في غير هذه الأرض؟ قالوا: نعم في الشام في سوريا ، قال: فمر بي ركبٌ فوضعت الحديد من رجلي وركبت معهم وتركت أبي وأهلي لألتمس الدين الحق، قال: فأركبوني معهم حتى نزلت بـالشام ، فأنزلوني عند راهب في صومعة، فجلست عنده، فوجدته رجل سوء شريراً يأمر الناس بالصدقة ويأكل أمولهم، ويأمرهم بطاعة الله ويعصي الله في الخفاء.
              قال: فلما مات حملوا جنازته، وحفروا له قبراً، قلت: لا تسرعوا إن هذا رجل سوء، عنده سبع قلال من المال من الذهب والفضة، وأريتهم إياها، فرجموه بالحجارة، ولعنوه وصلبوه، قال: ثم سألت الناس، فدلوني على راهب في العراق ، فذهبت إلى ذاك الراهب في صومعته؛ فوجدته من أعبد الناس لله ومن أصدقهم لمولاه، ما رأيت رجلاً غير المصلين أفضل منه -يستثني المسلمين- قال: فكنت معه بأحسن حال، فلما دنت منه الوفاة، قلت: إني صاحبتك وإن للصحبة حقاً، فدلني على رجل صالح، قال: فدلني على رجل صالح آخر فذهبت إليه، فوجدته كصاحبه في الصلاح والعبادة، فلما دنت منه الوفاة، قلت: بحق الصحبة معك، دلني على رجل صالح في الأرض، قال: لا أعلم راهباً بقي في هذه الأرض، ولكن هذا زمان مبعث رسول يرسل من العرب، قد أظلك زمانه، وهو يخرج في هذه الأيام، وسوف يهاجر من بلاده إلى أرض ذات نخل بين حرتين، أرض شديدة الحرارة، فإذا سمعت به فاذهب إليه.
              قال: فاشتغلت ببعض الكسب فحصل لي بعض الأموال من البقر والغنم، فتعرضت على ساحل البحر، فوجدت أناساً من العرب من التجار؛ فأعطيتهم الإبل والبقر والغنم أجرة على أن يحملوني إلى الجزيرة ، قال: وكانوا ظلمة، وادعوا أني عبد لهم -وما أصابته عبودية ولا رق إلا لله تبارك وتعالى- قال: فلما نزلنا ظلموني وباعوني من رجل من أهل وادي القرى قريباً من المدينة -وانظر إلى عناية الله كيف يقربه تبارك وتعالى من المدينة - قال: فأتى رجلٌ من اليهود في تلك الليلة من أهل المدينة ، فاشتراني من هذا الرجل في وادي القرى ؛ فذهبت معه، فكنت أجذ له النخل، وأسقي له على الناضح، وأشتغل له في الزراعة، وأتلمس الأخبار، وأتسمع الأنباء عن مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
              قال: وبينما أنا في النخلة، وإذا بيهودي آخر أتى يستهزئ ويستهتر على اليهودي الثاني صاحب المزرعة، ويقول: أتى جد بني قيلة -وبنو قيلة: هم الأنصار، وجدهم أي: حظهم، أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال له: أقدم اليوم؟ قال: نعم قدم، قال سلمان : فو الله ما إن سمعت كلامه وقع في أذني، حتى أصابتني رعدةٌ في جسمي فكدت أسقط من أعلى النخلة.
              قال: فوقفت بجانب سيدي، وقلت: ما الخبر؟ فلطمني على وجهي لطمة أجلستني، وقال: عد إلى شغلك، ما شأنك وهذا الشأن؟ قال: فعدت، وكان آخر الرهبان الثلاثة أخبرني بعلامات الرسول صلى الله عليه وسلم وهي ثلاث علامات:
              أولها: أنه لا يأكل الصدقة. وثانيها: أنه صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية.
              وثالثها: أن بين كتفيه خاتم النبوة.
              قال: فلما أظلم الليل أخذت مكتلاً معي من تمر، وأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قباء حيث بنو سلمة في أعالي المدينة ، فسلمت عليه؛ فرأيت وجهه ليس بوجه كذاب كأنه البدر.
              لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبيك بالخبر
              فوضعت المكتل بين يديه، وقلت: سمعت أنكم غرباء قدمتم؛ فخذوا هذا التمر صدقة، قال: فأمسك صلى الله عليه وسلم ولم يأكل، وقال لأصحابه: كلوا بسم الله، قال: فقلت في نفسي: هذه واحدة، قال: ثم عدت إلى النخل فلما أتت الليلة المقبلة، حملت مكتلاً آخر، وأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فوضعته بين يديه، وقلت: هذه هدية، فقال: بسم الله وأكل، فقلت: هذه الثانية.
              قال: ومشيت وراءه فأخذ يلمحني بعينيه صلى الله عليه وسلم، وعلم أنني أريد أن أرى خاتم النبوة بين كتفيه؛ فرفع رداءه صلى الله عليه وسلم فرأيت خاتم النبوة بين كتفيه، فانحنيت عليه أبكي وأقبله، قال: فهداني الله وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فأعتقني صلى الله عليه وسلم.
              وبلغ رضي الله عنه منزلة عظيكة عند رسول الله صلى الله عليه حتى أنه قال (سلمان منا آل البيت } فهو من أهل البيت نسباً في التقوى، وسلالة عريقة في النجابة والنبل والجهاد، وهو من أهل البيت في العبادة والطهارة والنزاهة، ولذلك كان من أصدق الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
              فيا أيها الجيل! ويا أيتها الأمة المباركة! ويا أيها الناس المحمودون بتقواهم وبعبادتهم! هلموا إلى الهداية، واطلبوا النور من الله الواحد الأحد، والتمسوها في كل حين وآن، في سجودكم، وأدبار صلاتكم، وصيامكم، وابتهالاتكم، علَّ الله أن يهدينا وإياكم سواء السبيل.
              أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.


              الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وحجة الله على الناس أجمعين محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
              أمَّا بَعْد:
              أيها الناس! إن الهداية من أعظم ما يمن الله به على العبد، وإن لها أسباباً، فمن أسبابها:
              أولاً: تلاوة كتاب الله عز وجل وتدبره، والعمل به، ومن لم يتله فليعمل به، فإن أعظم تلاوة له العمل به قال تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ .
              ثانياً: سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، والاهتداء بهديه، والاستنارة بنوره عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].
              ثالثاً: كثرة الدعاء والابتهال للحي القيوم في كل وقت وآن، أن يثبتك الله ويهديك، ويريك رشدك ويصلح بنيك وبناتك وأهل بيتك، فإن هذا أعظم المثوبة.
              رابعاً: التقرب إلى الله تبارك وتعالى بفعل الطاعات فإن الله عز وجل يقول في لحديث
              القدسي: {ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه }
              وأما موانع الهداية فكثيرة:
              أولها: خبث النفس، فتجد بعض الناس معرضاً عن الله، لا يريد الله ولا الدار الآخرة، ولا يريد ذكر الله ولا كتابه ولا رسوله، وإذا ذكر الله في مجلس أو ذكر رسوله صلى الله عليه وسلم اشمأز واحمر وجهه، وتكدَّر خاطره، وساء حاله، فنعوذ بالله من هذا الخبث. يقول عز من قائل في من هذا شأنه وحاله: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:23] وما صرف الله من صرف عن الهداية إلا لأنهم لا يريدونها.
              ثانيها: مرض الشبهه، وهو مرض الشك والإلحاد الذي ابتلي به كثيرٌ من الشباب إلا من رحم الله، شكٌ في القدرة والإيمان، وشكٌ في الرسول عليه الصلاة والسلام، ولذلك حوربنا في هذه الفترة بحرب شعواء، أعظم من حرب الطائرات والصواريخ، إنها حرب الإلحاد، والرأي العفن المتخلف، رأي لينين واستالين وماركس الذي نشروه في المعمورة، واجتاحوا به البلاد الإسلامية، وأورثوا الشبه والشكوك في المجلات، والجرائد، والمؤلفات، واتخذوا في نشرها الوسائل المغرية، حتى ألحد كثير من الناس بالله العظيم، وصرفوا الناس عن باب المسجد، وعن تلاوة القرآن، ودلوهم على جهنم وبئس المصير.
              ثالثها: مرض الشهوة، والتهالك على الحطام والشهوات، ولا نعني بذلك أن المال حرام، فجمع المال مطلوب، والصحابة جمعوا المال، ولكن لا يعبده الإنسان من دون الله، وكثيرٌ من شباب الإسلام ابتلوا بالشهوات، إلا من عصم ورحم الله وابتلوا بالزنا، والخمر، والفحش، والإعراض عنه تبارك وتعالى؛ فتركوا الطاعات، وهجروا المساجد، وقاطعوا كتاب الله عز وجل، وامتلأت بهم السجون، فما نفعت فيهم الحدود، لأنه لا يقومهم إلا لا إله إلا الله، ولا يهديهم إلا فتح من الله، في أن يعودوا إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فإنه هو الذي يهدي، وهو الذي يوفق: رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ [آل عمران:193] رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8].
              عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
              وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً
              اللهم صل وسلم على نبينا محمد، وارض اللهم على خلفائه الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
              اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، اللهم وفق إمامنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، ووفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك، يا ذا الجلال والإكرام.
              اللهم ارزقنا القناعة بما آتيتنا ورزقتنا، اللهم وأغننا بحلالك عن حرامك، وبك عمن سواك، اللهم اجعلنا أفقر الناس إليك، وأغنى الناس بك، اللهم وفقنا لما تحب وترضى.
              اللهم تب علينا توبة نصوحاً لا معصية بعدها اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.
              اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولسائر المسلمين.
              ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
              اللهم إنا نسألك أن تسقينا غيثًا مغيثاً هنيئًا مريئًا غدقًا, نعمة لنا لا نقمةً علينا,
              اللهم إنا نسألك أن تسقي العباد والبلاد, اللهم اكشف الضر عنا, اللهم اكشف الضر عنّا, اللهم اكشف الضُر عنّا, اللهم إنا نسألك أن تسقينا غيثًا هنيئًا, مريئًا, غدقًا مجللاً, اللهم إنا نسألك أن تغير أحوالنا إلى أحسن حال اللهم إنا ضعفاء فقوّنا, أقوياء بك فعزّنا, اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفاء منّا, اللهم إنّا نسألك التقى والعفاف والغنى, اللهم إنّا نسألك أن ترفع عنّا الزنا والربا وسوء الأخلاق, اللهم إنّا نسألك أن ترفع عنّا المعاصي كلها, إنك على كل شيء قدير, اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم, وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد, وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك




              **************************************








              تعليق

              • سُلاف
                مشرفة المواضيع الإسلامية
                من مؤسسين الموقع
                • Mar 2009
                • 10535





                جالبات ومانعات البركة في المعيشة








                الحمد لله جاعل الفرجِ قرينَ بلائه، وضامنِ الزَّيْدِ بشكر عطائه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له في صفاته وأسمائه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وأوليائه.


                أما بعد
                أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: 2- 3].

                لو نظرنا في واقعنا المعيشي وحياتنا الاجتماعية لوجدنا إلا من رحم الله أن البركة منزوعة منا وبعيدة عنا فتجد الواحد منا يكد ويكدح وربما يعمل في أكثر من عمل لكنه حينما ينظر في واقعه يجد أن معاناته تزيد وأعبائه تكثر، يخرج أحدنا إلى السوق ومعه الآلاف الريالات فيرجع فلا يجد منها إلا القليل فينظر فيما اشتراه فإذا بها مشتريات قليلة أو حاجات بسيطة فأين ذهبت تلك الآلاف إنها قلة البركة.

                أصبح الكل يصيح ويشتكي حتى الأغنياء وميسوري الحال مما يدل على أن أساس المشكلة هي قلة البركة، ترى أناساً رواتبهم ضخمة ودخلهم جيد ثم تراهم في أواخر الشهر يصيحون ويستدينون وترى بيوتاً فيها عصبة من الرجال العاملين والموظفين ومع ذلك تراهم صفر اليدين أو قد تحملوا شيئاً من الدين رواتبنا تزداد والبركة تقل والمعاشات ترتفع ومستوى المعيشة ينخفض فلا بركة في أموالنا ولا بركة في أرزاقنا ولا بركة في أوقاتنا ولا بركة في بيوتنا ولا بركة في أولادنا ولا بركة في أعمارنا فيا ترى ما هي المشكلة وما هي أسبابها وما هو الحل لهذه الظاهرة الملموسة والقضية المحسوسة التي نحسها في واقعنا ونلمسها في حياتنا فكان لزاماً علينا أن نتأمل أحوالنا ونراجع أنفسنا وننظر في الأسباب التي أدت إلى نزع البركات وقلة الخيرات ولهذا كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - كثيراً ما يقول في قنوته ودعائه " اللهم اهدنا فيمن هديت وعافنا فيمن عافيت.. وبارك لنا فيما أعطيت" فماهي البركة وكيف نستجلبها؟

                إن البركة هي الزيادة والنماء وكثرة الخير ودوامه فما حلت في قليل إلا كثرته ولا في كثير إلا نفعته ولا غنى لأحد عن بركة الله يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه "بينما أيّوبُ يغتسِل عريانًا، فخرَّ عليه جرادٌ من ذهَب، فجعل أيّوب يحتسي في ثوبه، فناداه ربّه: يا أيّوب، ألم أكن أغنيتُك عمّا ترى؟! قال: بلى وعزّتِك، ولكن لا غِنى بي عن بركتك".

                عباد الله:
                إن البركة تستجلب بتقوى الله وطاعة الله والالتزام بالأوامر والنواهي يقول الله سبحانه وتعالى ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ ﴾ [الأعراف: 96] ويقول ﴿ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ﴾ [الجن: 16] ويقول سبحانه وتعالى عن أهل الكتاب ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾ [المائدة: 66] فلننظر في أنفسنا وفي بيوتنا وفي مجتمعنا أين نحن من تقوى الله وطاعته سنرى أن المعاصي منتشرة والإيمان قد ضعف في نفوسنا والتقوى قد غابت عن قلوبنا حتى صرنا لا نرجو لله وقاراً ونعصيه ليلاً ونهاراً ونخالف أوامره سراً وجهاراً أصبحنا لا نقيم لأوامر الدين ونواهيه وزناً ولا نعطي العبادات اهتمامًاً وقدراً بل ربما أصبح بعضنا لا يلقي للصلاة بالاً فتجد أن صلاته وعبادته تكون في المرتبة الأخيرة من اهتماماته وتأتي في مؤخرة أولوياته فكيف نرجو البركة.

                إن البركة موجودة في كتاب الله فأين نحن من كتاب الله؟ وكم نقرأ كل يوم من القرآن الكريم؟ وما هو حزبنا ونصيبنا منه؟ فإنه كتاب مبارك وتلاوته تجلب الخير والبركة يقول الله سبحانه وتعالى ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29] ويقول ﴿ وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ﴾ [الأنبياء: 50]﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأنعام: 155] فإذا أردنا البركة فلنجعل لنا من كتاب الله نصيباً وورداً نقرأه حتى ونحن في أشغالنا وأعمالنا ولنكثر من سماع القرآن وفتح قنواته في بيوتنا ومحلاتنا وجوالاتنا حتى يُبارك لنا.

                عباد الله:
                من أعظم الأمور التي تجلب البركة الصدق في المعاملات سواء كان في البيع أو الشراء أو غيرها من المعاملات الأخرى فمن غش في معاملاته أو كذب في بيعه وشرائه فهذا ممحوق البركة ويكون حاله كالذي يأكل ولا يشبع يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لحكيم بن حزام - رضي الله عنه -"يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع" [رواه مسلم] ويقول - صلى الله عليه وسلم -"البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما" [رواه البخاري].

                أنظر إلى الغش في أسواقنا وتأمل في معاملاتنا ستجد النصب والاحتيال والأيمان الكاذبة واللف والدوران وأخذ الربا وأكل الرشوة والسرقة واللامبالاة في أكل الحرام الواضح والمشتبه وبيع المحرمات الظاهرة بل ربما تصل الأمور إلى الظلم والتعدي على حقوق الآخرين وأكل أموال الناس بالباطل وأكل أموال اليتامى واللعب بالوقف والأوقاف والتصرف في المال العام إلى غير ذلك من المظاهر السيئة المنتشرة في كثير من المعاملات فكيف نرجو البركة.

                فيجب أن نبتعد كل البعد عن المال الحرام بشتى أشكاله وصوره فإنه لا بركة فيه ولا بقاء له وضره أكثر من نفعه يقول الله سبحانه وتعالى ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾ [البقرة: 276] ويقول ﴿ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ﴾ [الروم: 39].

                كم من الناس من لديه مالاً لا بركة فيه فهو مشغول به في النهار وحريص عليه بالليل ويعده ويحصيه آناء الليل وأطراف النهار لا بركة في وقته ولا بركة في ماله فهو من خسارة إلى أخرى ومن نكسة إلى نكبة وليس معه إلا الشقاء النفسي والعذاب الروحي وصدق الله سبحانه وتعالى إذ يقول ﴿ فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [التوبة: 55].

                الخطبة الثانية
                من الأمور المجلبة للبركة الاجتماع على الطعام والتسمية عند الأكل منه والأكل من وسط الصحن أو الصحفة يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -"كلوا جميعاً ولا تفرقوا فإن البركة مع الجماعة" ويقول عليه الصلاة والسلام "اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله يبارك لكم" ويقول - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح البخاري "البركة تنزل وسط الطعام فكلوا من حافتيه ولا تأكلوا من وسطه" ويقول - صلى الله عليه وسلم - إذا وقعت وفي رواية إذا سقطت لقمة أحدكم فليأخذها فليمط ما كان بها من أذى وليأكلها ولا يدعها للشيطان ولا يمسح يده بالمنديل حتى أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه البركة".

                فأين نحن من هذه التوجيهات النبوية المباركة؟ أين نحن من الاجتماع على الطعام وكل واحد منا يحب أن يأكل لوحده ويحب أن يفترق عن أهله ويأكل لحاله والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول "كلوا جميعاً ولا تفرقوا فإن البركة مع الجماعة". أين نحن من التسمية عند الأكل وهل نأمر ونذكر أولادنا بها عند الطعام؟ أين نحن من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "إذا سقطت لقمة أحدكم فليأخذها فليمط ما كان بها من أذى وليأكلها ولا يدعها للشيطان ولا يمسح يده بالمنديل حتى أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه البركة"، وقوله "البركة تنزل وسط الطعام فكلوا من حافتيه ولا تأكلوا من وسطه".

                فهذه توجيهات نبوية نسيناها وغفلنا عنها فقلت البركة في طعامنا وأصبحنا دائماً ما نحتاج إلى راشن جديد وغاز جديد.

                مما يجلب البركة: السلام على الأهل عند دخول البيت يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنس بن مالك - رضي الله عنه -"يا بني إذا دخلت على أهلك فسلم، يكون بركة عليك وعلى أهل بيتك".

                ومما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن فيه بركة التبكير فالبكور فيه خير وبركة ومن أعظم البكور أن تصلي الفجر في وقتها مع الجماعة وأن تعمل في تجارتك أو عملك مبكراً فكل ذلك مجلب للبركة فالبركة في البكور والمحق والضمور في التأخير والفتور يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "اللّهُمَّ بارِكْ لأمَّتِي في بكورهم " وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث سرية بعثها أوّل النهار، وكان صخر الغامدي - رضي الله عنه -تاجراً، وكان لا يبعث غلمانه إلا من أوّل النهار، فكثر ماله حتى كان لا يدري أين يضع ماله" يقول بعض السلف: عجبت لمن يصلي الصبح بعد طلوع الشمس كيف يرزق؟!.

                عباد الله:
                هناك أمور كثيرة مباركة من ذلك زيت الزيتون والادهان به واستخدامه في الطعام فقد ذكر الله عن زيت الزيتون أنه: ﴿ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ ﴾ [النور: 35].

                وجعل الله البركة في ماء المطر فكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتعرض له إذا نزل ﴿ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا ﴾ [ق: 9].

                وجعل الله البركة في سكنى الشام واليمن كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "اللهمَّ باركْ لنا في شامِنا، اللهمَّ بارك لنا في يمننا...".

                وجعل الله البركة في الأنبياء والصالحين أما بركة الأنبياء فإنها بركة ذاتية أي أن أجسامهم مباركة ولهذا كان الصحابة يتبركون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويتمسحون به ويتسابقون على وضوئه وشعره ونخامته وعرقه لأن بركة الأنبياء متعدية إلى غيرهم أما غير الأنبياء من الأولياء والصالحين فإن بركتهم ليست بركة ذاتية وإنما بركة عمل راجعة إلى إيمانهم وعلمهم وتقواهم وهذه لا تنتقل من شخص إلى آخر فلا يجوز التمسح بهم أو التبرك بشيء من ملابسهم أو شعرهم أوريقهم وإنما يقتدى بهم ويؤخذ من علمهم ويستفاد من صلاحهم ولهذا لم ينقل عن أحد من الصحابة أنهم كانوا يتبركون بأحد بعد موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

                عباد الله:
                هذه همسة عن هذا الموضوع المهم أرجو ان تكون بداية خير وبركة لنا جميعاً فكلنا يشتكي من قلة البركة وذهاب المال في مصاريف تافهة فهذا يملك المال الوفير ولكنه منهك متعب والآخر له من الأولاد كذا وكذا ولكنه يرى أنه لا خير منهم ولا بركة فيهم.

                يجب علينا أن نكثر من الدعاء بالبركة فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى شيئا أعجبه دعا له بالبركة وكان يدعوا للعروسين بالبركة ويدعوا لمن أطعمه طعاماً بالبركة فيقول "اللهم بارك لهم فيما رزقتهم واغفر لهم وارحمهم".

                نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المباركين وأن يبارك لنا في أموالنا وأرزاقنا وأولادنا وأعمارنا.

                وأن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مباركاً وجمعتنا هذه جمعة مباركة...




                *********************************************


                خطبة اليوم لفضيلة الشيخ : مراد باخريصة











                تعليق

                • سُلاف
                  مشرفة المواضيع الإسلامية
                  من مؤسسين الموقع
                  • Mar 2009
                  • 10535






                  الله عز وجل خالق العباد والأفعال





                  إنَّ الحمدَ لله نَحْمَدُهُ ونستعينُهُ ونستهديهِ ونشكرُهُ ونستغفرُهُ ونتوبُ إليه ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فلا مُضِلَّ له ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ له. وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَهُ لا شريكَ له، ولا ضدَّ له، ولا نِدَّ له، ولا مثيل له، ولا مكانَ له، ولا خالقَ سواه، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وقرةَ أعينِنا محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ وصفيُّهُ وحبيبُهُ، بَلَّغَ الرسالةَ وأَدَّى الأمانةَ ونصحَ الأمَةَ فجزاهُ اللهُ عنا خيرَ ما جزى نبيًّا من أنبيائِهِ، صلواتُ الله وسلامُهُ عليه وعلى كلِّ رسولٍ أرسلَهُ.


                  أما بعدُ عبادَ اللهِ، فإنيِ أوصيكم ونفسي بتقوى الله العليِّ القديرِ القائلِ في محكمِ كتابِهِ في ذمِّ المشركين: {أَمْ جَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}


                  إخوةَ الإيمانِ لقد أمرَ اللهُ نبيّه المصطفى في هذه الآيةِ أن يُنْكِرَ على المشركينَ الذين كانوا يعبدونَ الأصنامَ مِنْ دونِ اللهِ ويُبَيِّنُ لهم أنَّ اللهَ هو خالقُ كلِّ شىءٍ وأنَّهُ الواحدُ الذي لا شريكَ له ولامثيل له ولا نظيرَ له ولا خالقَ لشىءٍ من الأشياءِ إلا هو القهَّارُ أي الغالبُ لكلِّ ماعداهُ الذي كلُّ ماسواه تحت قدرتِهِ مقهورٌ له سبحانه وتعالى.


                  [ قال في زاد المسير: {أَمْ جَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَاء }، قال ابن الأنباري: معناه: أجعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه، فتشابه خلق الله بخلق هؤلاء؟ وهذا استفهام إنكار، والمعنى: ليس الأمر على هذا، بل إذا فكّروا علموا أن الله هو المنفرد بالخلق، وغيره لايخلق شيئًا. قوله تعالى *{ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} * قال الزجاج: قُل ذلك وبيِّنه بما أخبرت به من الدلالة في هذه السورة مما يدل على أنه خالق كل شىء اهـ.]


                  أيها الأحبةُ إنَّ من أصولِ عقائدِ الإسلامِ اعتقادَ أنَّ الله خالُقنا أي مُخْرِجُنا من العدمِ إلى الوجودِ وخالقُ أعمالِنا أي الذي يُبْرِزُها من العدم إلى الوجود، وقد رُوِيَ عن إمامِ الصوفيةِ العارفينَ الجنيدِ البغداديِّ أنه سُئل مرة عن التوحيدِ فقال " إنه لا مُكَوِّنَ لشىءٍ منَ الأشياءِ من الأعيانِ والأعمالِ خالقٍ لها إلا اللهُ تعالى " والأعيانُ إخوةَ الإيمان هي كلُّ ما لَهُ حجمٌ صغيرًا كانَ أو كبيرًا أما الأعمالُ فالمرادُ بها أعمالُ العبادِ ما كان خيرًا وما كان شرًا فيجبُ علينا أيها الأحبةُ اعتقادُ أنَّ كلَّ ما دخلَ في الوجودِ مِنَ الأعيانِ أي الأحجامِ والأعمالِ وُجِدَ بِخَلْقِ اللهِ سبحانه وتعالى كما قالَ الله عَزَّ وجلَّ في مُحْكَمِ كتابِهِ: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ }


                  فهذه الآيةُ صريحةٌ في ما ذكرنا فنحن أيها الأحبةُ لا نَخْلُقُ شيئًا لا ذواتِنا ولا أعمالَنا إنما نحن وأعمالُنا بخلقِ اللهِ تعالى ولا فرقَ في ذلك إخوة الإيمانِ بين أعمالِنا الاختياريةِ كالأكلِ والشربِ والصلاةِ وبينَ الأعمالِ الاضطرايةِ كالارتعاشِ مِنَ البردِ بلْ كُلُّ ذلكِ بِخَلْقِهِ سبحانَهُ، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ }* . أخبرَ اللهُ تعالى بأنَّ صلاةَ العبدِ ونُسُكَهُ أي ما يَذْبَحُهُ تقربًا إلى الله تعالى كالأضحيةِ ومَحْيَاهُ ومماتهُ مِلكٌ له وخَلْقٌ له لايشاركُهُ فيه غيرُهُ فأعلمَنا أنه لافرقَ في ذلكَ بين الأعمالِ الاختياريةِ كالصلاةِ والنُّسُكِ وبينَ ما يَتَّصِفُ به العبدُ مما ليس باختيارِهِ كالحياةِ والموتِ، إنما تتميزُ الأعمالُ الاختياريةُ أي التي تقعُ باختيارِ العبادِ فيكتسبُها الناسُ بأنها هي التي عليها يُحَاسَبُ الإنسانُ ويُؤَاخَذُ فيما كانَ منها خيرًا يُثابُ عليهِ وما كان شرًّا يُؤَاخَذُ عليه كما قال الله تعالى * {لَهَا مَا كَسَبَتْ }* أي منَ الخيرِ أي تنتفعُ بذلكَ * {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} * أي وعليها وَبَالُ ما اكتسبتْهُ من الشرِ أي تستحقُّ العقوبةَ على ذلكَ، والكسبُ إخوةَ الإيمانِ هو توجيهُ العبدِ قصدَهُ وإرادتَهُ نَحْوَ العَمَلِ فيخلقُهُ الله عندَ ذلكَ فالعبادُ أيها الأحبةُ كاسبونَ لأعمالِهِمْ واللهُ خالقٌ للعبادِ وخالقٌ لأعمالِهِمْ وخالقٌ لِنِيَّاتِهِم وقصودِهِمْ لاخالقَ إلا هُوَ سبحانَهُ وتعالى الذي لا شريكَ لَهُ.


                  أيها الأحبةُ إنَّ من يعقدُ قلبَهُ على انَّ الله هو خالقُ كلِّ شىءٍ وأنه لا ضارَّ ولا نافعَ على الحقيقةِ إلا هوَ ويُكْثِرُ مِنْ شُهودِ ذلكَ بقلبِهِ حتى يصيرَ مُسْتَشْعِرًا لذلكَ بقلبِهِ دائمًا تَهُونُ عليه مصائبُ الدنيا وتهونُ عليه الشدائدُ ويذهبُ عنه الخوفُ من العبادِ ويصيرُ من أهلِ اليقينِ.


                  اللهُمَّ اجْعَلْنا من أهلِ اليقينِ وثبتنا على الطريقِ القويمِ.


                  هذا واستغفر الله لي ولكم.


                  الخطبة الثانية.


                  إن الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونشكرُهُ ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا وسيّئات أعمالنا مَنْ يَهْدِ اللهُ فلا مُضِلَّ له ومن يُضْلِلْ فلا هاديَ لَهُ والصلاةُ والسلامُ على سيّدنا محمّدٍ الصادقِ الوعدِ الأمينِ وعلى إخوانِهِ النبيّينَ والمرسلينَ. ورضيَ اللهُ عن أمهاتِ المؤمنينَ وءالِ البيتِ الطاهرينَ وعنِ الخلفاءِ الراشدينَ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ وعن الأئمةِ المهتدينَ أبي حنيفةَ ومالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ وعن الأولياءِ الصالحينَ أما بعدُ عبادَ الله فإنِّي أُوصِيكُمْ ونَفْسِي بتقوىَ اللهِ العليِّ العظيم فاتَّقُوهُ.


                  واعلَموا أنَّ الله أمرَكُمْ بأمْرٍ عظيمٍ أمرَكُمْ بالصلاة والسلام على نبيِّهِ الكريم فقال * {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }* اللهُمَّ صَلِّ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا صلّيتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ وبارِكْ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا بارَكْتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ يقول الله تعالى * {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} *. اللهُمَّ إنَّا دعَوْناكَ فاستجبْ لنا دعاءَنا فاغفِرِ اللهُمَّ لنا ذنوبَنا وإسرافَنا في أمرِنا اللهُمَّ اغفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهُمْ والأمواتِ ربَّنا ءاتِنا في الدنيا حسنَةٌ وفي الآخِرَةِ حسنةٌ وقِنا عذابَ النارِ اللهُمَّ اجعلْنا هُداةٌ مُهتدينَ غيرَ ضالّينَ ولا مُضِلينَ اللهُمَّ استرْ عَوراتِنا وءامِنْ روعاتِنا واكفِنا مَا أَهمَّنا وَقِنا شَرَّ ما نتخوَّف .


                  عبادَ الله * إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * اذكُروا الله العظيم يُثبكُمْ واشكُروهُ يزِدْكُمْ واستغفروه يغفِرْ لكُمْ واتَّقوهُ يجعلْ لكُمْ مِنْ أمرِكُمْ مخرَجًا وَأَقِمِ الصلاةَ.




                  *******************************************












                  تعليق

                  • سُلاف
                    مشرفة المواضيع الإسلامية
                    من مؤسسين الموقع
                    • Mar 2009
                    • 10535







                    تعظـيــم الأشهــر الحــرم








                    الحمد لله رب العالمين القائل في كتابه العظيم { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ..}، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله اختاره ربه واصطفاه على كثير من العالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيرا، أما بعد:

                    فيأيها المؤمنون والمؤمنات: اتقوا الله تعالى حق التقوى وتزودوا ليوم لا ريب فيه وتمسكوا بالعروة الوثقى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ .

                    عباد الله: لقد خصّ اللّه جل وعلا من شهور العام أربعة أشهرٍ فجعلهنّ حُرماً، وشرّفهنّ على سائر الشهور، وجعل الطاعة فيهن لها عظيم الأجر والثواب، وحذر من الذنوب والمعاصي وتوعد من يقع فيها بأليم الإثم والعقاب، قال الله جل وعلا:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}.

                    وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ما أجمله القرآن حول هذه الأشهر وأنها: رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حُرُم: ثلاث متواليات، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مُضر الذي بين جمادى وشعبان)(واللفظ للبخاري).

                    وأكد حرمة شهر ذي الحجة فقال في حجة الوداع: (أي شهر هذا؟)، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال (شهر حرام)، قال: (فإن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)(رواه البخاري).
                    وذكر القرآن الكريم حرمة شهر ذي القعدة، وذلك في قوله تعالى:{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ، وهذه الآية نزلت في حبس قريش للمسلمين عام الحديبية عن البيت في شهر ذي القعدة الحرام، فاعتمر النبي صلى الله عليه وسلم عمرة القضاء في السنة التالية في شهر ذي القعدة.

                    وسمي رجب بمضر لأن ربيعة بن نزار كانوا يحرمون شهر رمضان ويسمونه رجباً، وكانت مضر تحرم رجباً نفسه، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:(الذي بين جمادى وشعبان) ليرفع ما وقع في اسمه من الاختلال.
                    وهذه الشهور الحرم كانت العرب تحرمها في الجاهلية، وسبب ذلك هو أداء شعيرة الحج، فكانوا يحرمون قبله شهراً ليتمكنوا من السير إلى الحج، ويسمونه ذو القعدة لقعودهم عن القتال فيه، ثم يحرمون ذا الحج وفيه أداء مناسكهم وأسواقهم، ثم يحرمون بعده شهراً ليعودوا إلى ديارهم، وحرموا شهر رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت وأداء العمرة، فيأمن قاصد البيت الغارة فيه.

                    والظاهر أنها سميت حُرُماً؛ لأن الله حرَّم فيها القتال بين الناس، كما قال الله جل وعلا:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}، وقال تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ }، فدل ذلك على أنه محرّم فيها القتال، وذلك من رحمة الله لعباده حتى يسافروا فيها ويحجوا ويعتمروا.

                    عباد الله: ومن خصائص الأشهر الحُرُم:
                    * تحريم القتال فيهن: قال الله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ}، فقد كان القتال في الأشهر الحُرُم محرماً في الجاهلية قبل الإسلام ، فكانت الجاهلية تعظمهن وتحرم القتال فيهن، حتى لو لقي الرجل منهم فيهن قاتل أبيه أو أخيه تركه.
                    وقد اختلف العلماء هل حرمة القتال فيها باقية أو نسخت؟ والراجح أنها باقية ولم تنسخ وأن التحريم فيها باقٍ ولا يزال.
                    * تحريم الظلم فيهن: قال الله جل وعلا:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ }، فالظلم في الأشهر الحُرُم أعظم خطيئةً ووزراً من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً، ولكن الله يُعَظِّمُ من أمره ما يشاء.
                    * عظم العمل الصالح فيهن: ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "خصَّ الله من شهور العام أربعة أشهر فجعلهن حُرماً، وعظّم حرماتهن، وجعل الذنبَ فيهن عظيماً وللعمل الصالح الأجر العظيم" .
                    عباد الله: لقد اشتملت هذه الأشهر الحرم على فضائل وعبادات ليست في غيرها، ومن ذلك:
                    * أولاً: العشر من ذي الحجة: فقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام ــ يعني أيام العشر). والسبب في تميز هذه العشر لمكان اجتماع أمهات العبادة فيها، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج.
                    * ثانياً: فريضة الحج: قال الها جل وعلا:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ}، قال ابن عمر رضي الله عنهما: هي: "شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة".
                    * ثالثاً: يوم عرفة: ولو لم يكن في عشر ذي الحجة إلا يوم عرفة لكفاها ذلك فضلاً فهو يوم الحج الأكبر، ويوم مغفرة الذنوب، ويوم العتق من النيران. وروى مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده).
                    * رابعاً: يوم النحر : وهو أفضل أيام العام كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو الصحيح، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:(أفضل الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القَرِّ)(رواه أحمد وأبو داود)، لأن فيه من الأعمال ما لا يعمل في غيره.
                    * خامساً: أيام التشريق: لما رواه مسلم عن نبيشة الهذلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله).
                    * سادساً: شهر الله المحرم: لما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل).
                    * يوم عاشوراء: لما رواه مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله).
                    قال تعالى:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}
                    بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

                    الخطبة الثانية:
                    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الكريم محمد بن عبد الله الذي علم أمته كل خيرٍ، وحذَّرهم من كل شرٍّ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

                    فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن كل واحد منا موقوف بين يدي الله، فمن اتقاه وعمل بما يرضيه نال رضاه وجنته، ومن أعرض عنه وعصاه نال سخطه وعقابه.

                    عباد الله: أيام أعمارنا تمر بنا وتمر معها تلك الأشهر الفاضلة، والتي ربما لا يشعر الكثير منا بمكانتها وقيمتها، فعلينا أن نعظم تلك الشهور وأن نجتهد فيها بالعمل الصالح الرشيد، وأن نستغل فرصة العمر من أجل التزود بالحسنات، فالموت يقطع الإنسان عن العمل، وإذا نزل بالمرء الموت وعاين أمور الآخرة تمنى لو أنه رجع ليعمل صالحاً.

                    عباد الله: احذروا من البدع التي يقع فيها بعض المسلمين في تلك الشهور وغيرها، ويأتون بما لم يرد في الكتاب والسنة، فأمر البدع عظيم وشرها مستطير، فقد قال الله جل وعلا: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}. وقال صلى الله عليه وسلم (مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)، وفي رواية (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)(متفق عليه).

                    وكان صلى الله عليه وسلم يوصي أمته بقوله:(فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ)(رواه أحمد، وابن ماجة، وأبو داود، والترمذي).
                    أسأل الله تعالى أن يفقهنا في ديننا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يوفقنا وإياكم لكل ما يحب ويرضى.
                    هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: [إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً]




                    *******************************************




                    خطبة اليوم لفضيلة الشيخ : عبد الله بن محمد بن أحمد الطيار


















                    تعليق

                    • سُلاف
                      مشرفة المواضيع الإسلامية
                      من مؤسسين الموقع
                      • Mar 2009
                      • 10535









                      البقــرة وبنـو اسرائيــل





                      إنَّ الحمد لله، نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله.
                      {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}

                      أما بعد:
                      فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
                      * أيها الناس:
                      تعنَّت العقل البشري أمام الوحي، وخاصم الإنسان الفاجرُ ربَّه، واعترض على خالقه، واستكبر عن عبادة سيده ومولاه.
                      ومعنا اليوم صورة من صور اعتراض البشر الضعفاء على الله القويّ، صورة من صور الاستكبار والطغيان، صورة من صور تعنُّتِ بني إسرائيل على أنبياء الله ورسله.
                      نتحدث اليوم عن ((عقدة البقرة)) وهي العقدة التي تعقَّد بها بنو إسرائيل، واضطرب حَالهم فيها، وسألوا، وناقشوا، وجادلوا، وشددوا على أنفسهم، فشدَّد الله عليهم.
                      الله – عز وجل – تكلم في القرآن عن عالم النبات؛ لأنه خالق النبات، وتكلم عن عالم الطيور، وعن عالم الحيوان، وعن عالم الحشرات؛ لأنه خالقها ورازقها ومدبر أمورها.

                      وكان - صلى الله عليه وسلم - يقرأ السور التي فيها هذه الكائنات، فسورة النمل، وسورة النحل، وسورة العنكبوت، وسورة البقرة، وسورة الفيل، وغير ذلك من السور التي فيها مخلوقات الله تعالى، فكبُر ذلك الأمر على المشركين، فقال كفار قريش: إن محمداً يستهزئ بكم، يأتينا بكلام يزعم أنه وحيٌ، يتكلم فيه عن عالم الحيوانات والعجماوات والطيورِ والحشراتِ، فما دَخْل الذباب والعنكبوت والكلاب والحمير بهذا الوحي، وما بالها تذكر في القرآن، فرد الله عليهم: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}
                      فالذي خلق البعوضة هو الله، والذي خلق الذباب هو الله، والذي جعل الفيل على هيئته هو الله، والذي صور البقرة هو الله، والذي ركّب الطير هو الله، لا إله إلا هو ولا ربَّ سواه.
                      وقد أشار ابن القيم – رحمه الله – أن من الناس من هم على ضروب الحيوانات وصفاتها وأخلاقها.
                      ففي الناس مَنْ طبيعتُه كطبيعة الخنزير تماماً، لا يقع إلا على القاذورات، ليس عنده غيرة على محارمه، لا يسمع إلا الفحش من القول، وإذا سمع الجميل فكأنه لم يسمع: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ}
                      ومن الناس من هو على صفة الذباب لا يقع إلا على الجرح، يذهب إلى نقاط الضعف ويتصيد أخطاء الآخرين، أما المحاسن فلا يذكرها ولا يلتفت إليها.
                      ومن الناس من هو على هيئة الجمل في حلمه، وصبره، وقوة تحمله في الشدائد، وقطع المفاوز والقفار.

                      والمقصود: أن الله – عز وجل – يقول: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي ...} وَمَنْ يمنعه - تبارك وتعالى - أن يتكلم بما شاء، من يمنعه أن يضرب الأمثال، من يمنعه: {أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا]. {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ} وهم حزب الله من أهل التوحيد، ومن حملة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }أهل الوضوء والصلاة والصيام، أما هؤلاء فيعلمون أن كل ما عند الله – عز وجل – هو صدقٌ وحقٌّ وعدلٌ، {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ} ، ولذلك تراهم يقولون: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا}]، {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ، ثم يقصُّ الله علينا قصة البقرة، وسميت أكبر سورة في القرآن باسم البقرة، فتُعْرَفُ بين الناس بهذا الاسم من أجل آيات خمس، فلا يعرف المسلمون هذه السورة إلا بسورة البقرة.
                      وهذه السورة فيها نسف وإبادة لبني إسرائيل، وفيها أحكام شرعية كثيرة، وقواعد عقلية، وآداب وتوجيهات، يصلح بها الفرد والمجتمع وتهتدي بنورها الأمم والشعوب.

                      أما قصة البقرة فذلك ما قال الله – عز وجل – فيها: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ}
                      عباد الله:
                      هذه هي قصة البقرة كما حكاها القرآن العظيم مصوراً تعنت بني إسرائيل وجدالهم البغيض لأوامر الله – عز وجل – واستكبارهم عن طاعة نبي الله موسى عليه السلام، وهذا شأن هذه الفئة الضالة في كل زمان وموضع.
                      {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} [البقرة
                      لماذا يأمرهم الله – عز وجل – بذلك؟ وما الحكمة في ذبح هذه البقرة؟ وما وجه التكليف في هذا الأمر؟
                      قال العلماء: قدم الله قصة البقرة ثم ذكر بعد ذلك سبب الأمر بذبحها، وذلك قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ}
                      قال أهل التفسير: كان رجل من بني إسرائيل غنيّاً ثريّاً فعدا عليه ابن أخيه في الليل فذبحه!! اغتيال رهيب، وقتل للنفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وبعد هذه الجريمة الشنعاء ذهب هذا القاتل المجرم إلى موسى عليه السلام؛ ليخفي جريمته، ويبعد التهمة عن نفسه فبكى بين يدي موسى عليه السلام، قال: ما لك؟ قال: قتل عمي البارحة، ولا أعرف مَنْ قتله!! وأنت نبي الله فسل ربك مَنْ قتله؟
                      فجمع موسى بني إسرائيل وقال: من قتل عمَّ هذا الرجل؟ فقالوا: لا ندري عن ذلك يا موسى، وإن كنت نبيّاً فسل ربك يخبرك.
                      فقام مبتهلاً إلى الله – عز وجل – وأخذ يدعو الله ويبكي قائلاً: اللهم أخبرنا خبر هذا الرجل. فأوحى الله إليه يا موسى مُرْ بني إسرائيل أن يأخذوا بقرة فيذبحوها، ثم يؤخذ عضو منها فيضرب به الميت، فسوف يَحيا بإذني ويتكلم ويخبر عن قاتله.
                      فقال موسى: اذبحوا بقرة .. أمر يسير، لا تعقيد فيه ولا مشقة .. اذبحوا بقرة. قال ابن عباس –: ((لو ذبحوا أي بقرة لأجزأتهم)) ولكنهم تعنتوا وتنطعوا وجادلوا في ذلك، قالوا: ما هي البقرة، ما لونها؟ ما صفتها؟ ما سنها؟
                      الله – عز وجل – يأمرهم بأمر يسير من كلمتين اثنتين: {تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} فجادلوا في ذلك، وأظلمت عقولهم عن إدراك هذا الأمر، وهذه عادة بني إسرائيل.
                      أنزلهم الله وادٍ فيه منٌّ وسلوى – حمام مشوي وعسل مصفى – وقال: كلوا من هذه الطيبات، فماذا قالوا؟ قالوا: لا، {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا}
                      أخرجهم من البحر، [وأقدامهم مبتلة بالماء] فلما خرجوا وذهب موسى يكلِّم ربه عبدوا العجل من دون الله!!
                      قالوا: ظمئنا، أين الماء؟ فضربَ الحجر بالعصا؛ فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً.
                      قالوا: أين ربك؟ قال: أكلمه. قالوا: اذهب فكلِّمه، فذهب فعبدوا العجل، فلما رجع وجدهم يركعون له ويسجدون، فبكى موسى منهم، وقال: يا ربِّ ما توبة بني إسرائيل؟ قال: خذ من خيارهم سبعين رجلاً، واذهب بهم إلى طور سيناء، وادعوني لأتوب عليكم، قال ابن عباس: وكان فيما دعوا قالوا: اللهم أعطنا ما لم تعط أحداً قبلنا، ولا تعطه أحداً بعدنا، فكره الله ذلك من دعائهم، فأخذتهم الرجفة، فقال موسى: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا
                      وقال محمد بن إسحاق: اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلاً من خيارهم، وقال: انطلقوا إلى الله، فتوبوا إليه مما صنعتم، أي: من عبادة العجل، سلوا الله التوبة على ما تركتم من الأموال والأولاد، وصوموا وطهروا ثيابكم فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقَّته له ربه، فقال السبعون رجلاً لموسى عليه السلام: اطلب لنا أن نسمع كلام الله؟! فقال: أفعل، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود من الغمام حتى تغشى الجبل كله؛ ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا، فدنا القوم حتى إذا دخلوا وقعوا سجوداً، فسمعوه وهو يُكلَّم، يأمره وينهاه، فلما فرغ إليه من أمره وانكشف عن موسى الغمام أقبل إليهم، فقالوا: يا موسى {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً، فأخذتهم الصاعقة فماتوا جميعاً، فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ. ربِّ قد سفهوا، أفتهلك مَنْ ورائي من بني إسرائيل بسببهم
                      هؤلاء هم خيار بني إسرائيل فما بالك بعامتهم، وما ظنك بشرارهم؟
                      أيها الناس:
                      نعود إلى ((عقدة البقرة)) والتي تبدأ من قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} ، وهذه كلمة أبي جهل، وكلمة الخونة العملاء أمام الدعاة والعلماء، تتكرر هذه الكلمة في كل زمان ومكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} أتضحك علينا؟ أتُضَلِّلنا؟ نسألك عن القتيل فتقول: اذبحوا بقرة!! {قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}
                      قال العلماء: مَنْ سخر من الوحي فقد جهل، ومن عبث في التعليم فقد جهل، ومن أتى بالهزل في موطن الجد فقد جهل، ونبي الله موسى عليه السلام، مبرَّأ مِنْ هذا كلّه.
                      قال بنوا إسرائيل: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ ألا يعلمون ما هي؟ أم هو الجدال بالباطل والغي والضلال!!
                      {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} ، أي: ليست بالكبيرة المسنة ولا بالبكر الصغيرة، وإنما هي بين البكر والهرمة، {فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ} على وجه المسارعة والفور.
                      ولكنهم أتوا بتعنتٍ آخر فقالوا: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا، وهذا من التشدد والتنطع؛ لأن الله – عز وجل – لم يحدد لوناً معيناً، ولم يلزمهم بالبحث عن ذلك، ولكن العقول الخربة والقلوب الميتة هي التي تشتغل بما لم تؤمر به، وتعرض عما أمرت به.
                      {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ فهي بقرة صفراء صافٍ لونها، ليس فيها سواد ولا بياض، تعجب الناظرين إذا رأوها. ولكنَّ بني إسرائيل لا يعجبهم أن تنتهي القضية عند هذا الحدّ، فرجعوا إلى موسى وقالوا: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ}
                      قال أبو العالية: لو أن القوم حيث أُمروا أن يذبحوا بقرة، استعرضوا بقرة فذبحوها، لكانت إياها، ولكنهم شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، ولولا أن القوم استثنوا فقالوا: {وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ لما هُدوا إليها أبداً
                      {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا. أي: إنها بقرة لم يذللها العمل، فهي ليست بذلول تثير الأرض، وكذلك فهي لا تسقي الحرث، أي: لا تعمل في الحرث، إنما {مُسَلَّمَةٌ أي: سالمة من العيوب { لاَّ شِيَةَ فِيهَا أي: لا بياض فيها، أو أي بقعة تخالف اللون الأصفر.
                      {قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ، وانظر إلى تعدي بني إسرائيل على نبي الله موسى عليه السلام، وكأنه قبل ذلك لم يأتهم بالحق، كأنه قبل ذلك كان يلعب معهم، أو يضحك عليهم، أو يستهزئ بهم كما ظنوا في بادئ الأمر. {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} [البقرة: ، ومما ورد في ذلك أنهم لم يجدوا هذه البقرة إلا عند عجوز تقوم على يتامى وهي القيِّمةُ عليهم، فلما علمت أنه لن تُجْزِئهم غير هذه البقرة ضاعفت عليهم الثمن، فقال موسى: إن الله قد خفَّف عليكم فشددتم على أنفسكم فأعطوها ما تريد، ففعلوا واشتروها بملء جلدها ذهباً!!
                      فَقُلْ للعيونِ الرُّمْدِ للشَّمْسِ أعينٌ تراها بحقٍّ في مغيبٍ ومطلعِ
                      وسامحْ عيوناً أطفأ الله نورها بأبصارها لا تستفيقُ ولا تعِ
                      قال بعض العلماء: مَثَلُ بني إسرائيل الذين تشددوا في معرفة أوصاف هذه البقرة فشدَّد الله عليهم حتى غرِموا وزنها ذهباً، مثلهم كمثل بعض هذه الأمة من الذين ثقُلت عليهم التكاليف الشرعية الميسرة والعبادات التي فرضها الله – عز وجل – فكان جزاؤهم جهنم وبئس المصير، ولقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم قوماً توضؤوا على عَجَلٍ فلم يمس الماء أعقابهم فقال عليه الصلاة والسلام: ((ويلٌ للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء))
                      قال أهل العلم: فمن لم يتحمل مشقة الماء البارد في إسباغ الوضوء حمَّله الله نار جهنم في عقبيه؛ لأنه تهاون في تنفيذ أوامر الله – عز وجل – وضيعها فضيعه الله يوم القيامة.
                      {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ. فلما ذبحوها أمرهم موسى عليه السلام أن يأخذوا عظماً منها فيضربوا به القتيل فلما فعلوا رجعت إليه روحه بإذن الله وقام ينتفض، فسأله موسى: مَنْ قتلك؟ قال: ابن أخي هذا، ثم خرَّ ميتاً كما كان. فجاء موسى بالقاتل المجرم فقتله على جريمته قصاصاً.
                      * أيها الناس:
                      هذه قصة البقرة كما ذكرها أهل التفسير، والبقر في الرؤيا بشرى خير، فإذا رئيت ربما كان ذلك دليلاً على شهادة في سبيل الله، أو على الخير والصلاح والإيمان، ولا يؤخذ من الرؤى أحكام شرعية؛ وإنما ذلك للاستئناس فقط.
                      * وقد ورد في "الصحيح" عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض به نخل، فذهب وَهْلي إلى أنها اليمامة أو هَجَرُ فإذا هي المدينة يثرب]، ورأيت في رؤياي هذه أني هززت سَيْفاً، فانقطع صدره فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أُحد، ثم هززتُه أخرى فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتحِ واجتماعِ المؤمنين. ورأيت فيها أيضاً بقراً، والله خيرٌ، فإذا هم النفر المؤمنين يومَ أحد ..))
                      ويستفاد من هذا أن بني إسرائيل لما أمروا بذبح البقرة اعترضوا وجادلوا وناقشوا، أما أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قدموا أنفسهم رخيصة في سبيل الله، سمعوا قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ. فقالوا: ربح البيع .. ربح البيع، لا نُقيل ولا نستقيل.
                      يأتي عمير بن الحمام فيسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - وقد دنا المشركون من بدر -: ((قوموا على جنة عرضها السماوات والأرض)) فقال: يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: ((نعم)) قال: بخٍ بخٍ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وما يحملك على قولك بخٍ بخٍ؟)) قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها. قال: ((فإنك من أهلها)) فأخرج تمرات مِن قَرَنه، فجعل يأكل منهنَّ، ثم قال: لئن أنا حَييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة!! فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتل حتى قتل
                      هؤلاء هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يرون الجنة والنار رأي العين في حديثه عليه الصلاة والسلام، هذا هو الصنف الخالد الذي قدمه عليه الصلاة والسلام للبشرية، قال تعالى: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33].
                      قال بعض المفسرين: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَصَدَّقَ بِهِ أبو بكر رضي الله عنه
                      لقد صدّق أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كذّبه الناس، وآواه حين طارده قومه، وواساه بنفسه وماله حين تخلَّى عنه أهله وعشيرته.
                      إن هناك مدرسة اسمها: ((مدرسة أبي بكر الصديق)) هذه المدرسة تسمع كلام الله، وتلتزم أحكامه، وتصدق بالوحي فلا تفعل إلا ما يرضي الله - تبارك وتعالى .
                      وهناك مدرسة أخرى هي مدرسة: ((أبي جهل)) وهذه المدرسة أسسها المارقون وأهل النفاق والعلمنة، وأصحاب عقدة البقرة من الذين طمس الله بصائرهم.
                      والقائمون على هذه المدرسة يعملون على التكذيب بالوحي، فلا يريدون للوحي أن يتدخَّل في حياة الناس؛ لينير لهم الطريق، فهم يحولون دون سماع صوت الوحي أو نشره، أو فهمه، أو تدريسه، أو تربية الأجيال عليه، أو كتابته، أو التأليف فيه.
                      إن هذه الفئة فئة أبي جهل، والمغيرة بن شعبة، وأهل الضلال من أصحاب عقدة البقرة، ليقفون حجر عثرة في وجه أتباع موسى ومحمد عليهما السلام، وجميع الأنبياء المرسلين: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً}
                      * عباد الله:
                      ويستفاد من قصة بني إسرائيل أمورٌ ثلاثة:
                      الأول: لا يحقُّ للعقل أن يعترض على الوحي، ويوم يبدأ بالاعتراض والتشكيك تبدأ اللعنة تنصبُّ من السماء، فإما أن يرجع عن غَيّه وضلاله، وإما الهلاك المحتوم والمصير المظلم.
                      الثاني: على المسلم أن يتلقَّى هذه الرسالة، وأن يتوجَّه إلى الله بالانقياد والرضا، وأن يسلم قياده لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يسجد لله – عز وجل – وأن يعلن انكساره وفقره أمام خالق السماوات والأرض.
                      الثالث: فضل الأمة المحمدية التي سارت على منهج النبي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يوم قالت لرسولها صلى الله عليه وسلم: لو استعرضت بنا عرض البحر لخضناه معك، اذهب أنت وربُّك فقاتلا إنَّا معكما مقاتلون، وليس كما قالت بنو إسرائيل: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}
                      أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين؛ فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو التواب الرحيم.
                      الخطبة الثانية
                      الحمد لله رب العالمين، وليُّ الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
                      وبعد: ففي العالم اليوم أطروحة تسمى: أطروحة التعايش السلمي بين الأمم والشعوب، وهذه الأطروحة تدعو إلى نبذ الأديان التي تعمل على التفرقة بين البشر بسبب اختلاف الدين. قالوا: إن سبب النزاع والصراع بين الناس هو الدين، فيجب نبذه والتخلص منه؛ ليعيش الناس في محبة وسلام تحت مظلة الإنسانية التي تجمع الناس جميعاً بزعمهم.
                      وهذه هي مبادئ الماسونية، وهي في صورتها تعمل على نبذ جميع الأديان لتنتشر المحبة بين الناس، ولكن في حقيقتها دعوة خاصة ليتخلى المسلم عن عقيدته، ويتبرَّأ من انتمائه للإسلام، فبينما صدَّق كثير من المنتسبين للإسلام هذه الدعوى، نجد أن الأمر على النقيض من ذلك بين أصحاب الديانات الأخرى، فاليهود يحاولون الرجوع إلى أصولهم المحرَّفة، والنصارى في عودة مستمرة إلى دينهم الباطل، والمسلمون ينتظرون حلول مشاكلهم بتطبيق النظام العالمي الجديد!! ويستسلمون لقوى البغي والعدوان بدعوى التعايش السلمي المزعوم.
                      والله – عزَّ وجلَّ – يحذِّرنا بعد قصة البقرة من هذا الخداع، ويقطع علينا خطَّ الرجعة حتى لا نطمع في بني إسرائيل، فاليهود هم اليهود في كل عصر ومصر.
                      إِنَّ الْعَصَا مِنْ هَذِهِ الْعُصَيَّهْ لا تَلِدُ الحَيَّةُ إِلاَّ حَيَّهْ
                      ولو نسيت الكلاب نباحها، والخيول صهيلها، والغنم غثاءها، والحمام هديره، ما نسي اليهودي عداءَه للرسول صلى الله عليه وسلم، فالخيانة مكنونة في دمائهم، والحقد والحسد أصل من أصولهم، وعداؤهم لـ: - لا إله إلا الله – طبع من طباعهم، يتشربونه في طفولتهم، وفي مدارسهم وجامعاتهم ومنتدياتهم، وفي ذلك يقول الله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75] {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُم } أتظنون أنهم سوف يسالمونكم، ويؤمنون لمبادئكم ويكونون إخوةً لكم {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ} لا، لا تطمعوا في ذلك، فهي قلوب قست، وأفئدة أظلمت، وأبصار عميت، وآذان أصابها الوقر، وعقولٌ خراب: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}
                      إن الله – عز وجل – قد أنعم على بني إسرائيل بنعم لا تحصى، أطعمهم المنَّ والسلوى، وأنقذهم من فرعون الطاغية، وأراهم الآيات، وأرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب، فماذا قالوا: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}
                      وقالوا: {إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء}
                      فقابلوا النعمة بالجحود والكفران، فضربت عليهم الذلة أينما ثُقفوا، وأصابتهم اللعنة أينما حَلّوا: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ
                      * أيها الناس: وفي قصة البقرة لطائف أذكرها للاستملاح كما ذكرها أهل العلم، وكما نبَّه عليها المفسرون:
                      الأولى: قالوا لإمام أهل السُّنَّة والجماعة أبي عبد الله أحمد بن حنبل: أتذبح البقرة أم تُنحر ما السنة في ذلك؟ فقال الإمام أحمد: بل تذبح: قالوا وما الدليل؟ قال: قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً]، وقد بوَّب الإمام البخاري في "الصحيح" في كتاب الحج، قال: باب ذبح الرجل البقر
                      والمقصود من ذلك هو بيان فقه أئمتنا وعلمائنا، وهذه العقول المدركة، والآذان الواعية والقلوب النَّيرة التي رفعت مستوى الثقافة والإدراك والفهم عند المسلمين، حتى صار المسلمون أمة مرهوبة الجانب، قوية الأركان، صلبة المراس، فشرفُنا أحمد بن حنبل، وتاريخُنا ابن تيمية، ومجدُنا مالك، وفخرُنا الشافعي، وسؤددنا أبو حنيفة، هذا ميراثنا، علمٌ نافعٌ موصولٌ بمشكاة النبوة: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ}
                      أما ميراثُ العملاء، أما تاريخ الخونة، أما مجد المنافقين والعلمانين، إما وَتَرٌ، أو بلوت، أو موسيقى حالمة، أو ضياع، أو مجون، {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} [النور
                      الثانية: جواز بيع السَّلَم: وانظر إلى عقل الإمام مالك كيف حلّق به في سماء الاستنباط، فاستنتج من قصة البقرة أن من باع غرضاً بصفة كصفة بقرة بني إسرائيل جاز بيعه بصفة معلومة؛ لأن هذه البقرة وصفت لهم من الله – عز وجل – فبحثوا عنها فوجدوها.
                      الثالثة: أنه لا ينبغي للمسلم أن يتشدد، أو يتعنت أمام المسائل الشرعية، ولا ينبغي أيضاً أن يسأل العلماء على وجه التعنت والإفحام، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغَلوطاتبل ينبغي على طالب العلم أن يكون سؤاله للعلم لا للترف الذهني، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ}
                      الرابعة: ويؤخذ من هذه القصة - أيضاً - أن الدين يسر، وأن الله إذا أمر بمر فينبغي أن يؤخذ على ظاهره حتى يثبت خلاف ذلك، فعلى المسلم أن يسارع إلى تنفيذ هذا الأمر دون جدال أو تنطع.
                      الخامسة: ويستفاد من هذه القصة - أيضاً - أن مَنْ سارع في تنفيذ الأمر في أول وقته هو المأجور، فمن صلى الصلاة في أول وقتها كان أجره أعظم من الذي أخَّرها عن وقتها، قال ابن مسعود: يا رسول الله أي العمل خير؟ قال: ((الصلاةُ على وقتها))
                      وكذلك من حج في أول عمره، ومن تاب في أول عمره، أفضل ممن ترك الحج أو التوبة حتى بلغ الستين، أو السبعين.
                      تَفِرُّ مِنَ الْهَجِيرُ وتَتَّقِيهِ فَهَلاَّ مِنْ جَهَنَّمَ قَدْ فَرَرْتَا
                      وَتُشْفِقُ للمُصِرِّ على الخَطَايَا وتَرْحَمُهُ ونَفَسُكَ مَا رَحِمْتَا
                      وَيَقْبُحُ بالفتى فِعْلُ التَّصَابِي وأَقْبَحُ مِنْهُ شيخٌ قَدْ تَفَتَّا
                      ولذلك فإن من أخَّر التوبة، وسوَّف بها، وفعل الأفعال الشنيعة، فإنه قد أساء إساءتين؛ إساءة المعصية، وإساءة عدم الإعذار من الله، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)) وذكر منهم: ((الشيخ الزاني))
                      فإن مثل هذا يأتي يوم القيامة ولا حجة له. قال عليه الصلاة والسلام: ((أعذر الله إلى امرئ بلَّغه ستين سنة)). ومعنى الحديث أن الله – عز وجل – قد قطع عليه الحجة والعذر فلا حجة له ولا عذر عنده، قال تعالى:
                      {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِير
                      قال ابن عباس: النذير الشيب والمقصود: البدار البدار، لا نصبح كبني إسرائيل نسمع الموعظة فلا نتأثَّر، ولا نُلقي لها بالاً، وإن تأثَّر البعض فتأثر وقتي سرعان ما يزول.
                      إن المطلوب هو الإسراع في صعود سفينة النجاة، ومخالفة أصحاب الجحيم من اليهود والنصارى وسائر ملل الكفر، وقد أمرنا الله – عز وجل – أن نتبرأ منهم ونستعيذ من طريقتهم في كل ركعة من أي صلاة فنقول: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ
                      والمغضوب عليهم هم اليهود، والضالون هم النصارى.
                      قال سفيان بن عيينة – رحمه الله -: من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبَّادنا ففيه شبه من النصارى، والأمة اليوم فيها مدرسة تشابه مدرسة اليهود والنصارى؛ في أفكارها، والتوائها، ومحاربتها لدين الله – عز وجل – يظهر ذلك في أطروحاتها المقدمة، وفي أقلامها العملية التي تهدم الأخلاق وتحارب الفضيلة وتعمل على تنحية الهوية الإسلامية لهذه الأمة واستبدالها بغيرها من آراء وأفكار اليهود والنصارى.
                      نسأل الله تعالى أن يهدينا صراطه المستقيم، وأن يجنبنا جميعاً صراط المغضوب عليهم والضالين.
                      * عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً. وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من صلَّى عليَّ صلاة صلَّى الله عليه بها عشراً))








                      ****************************************


                      خطبة اليوم لفضيلة الشيخ : عائض بن عبد الله القرني






















                      تعليق

                      • سُلاف
                        مشرفة المواضيع الإسلامية
                        من مؤسسين الموقع
                        • Mar 2009
                        • 10535










                        لا تحـــاســـدوا




                        الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة وجعل أمتنا ولله الحمد خير أمة ، وبعث إلينا رسولاً منا يتلو علينا آياته ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة ، أحمده على نعمه الجمة وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله قال تعالى: ( وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمد صلى الله عليه وسلم بجوامع الكلم وخصه ببدائع الحكم

                        فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول صلى الله عليه وسلم (لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعص وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله و لا يكذبه ولا يحقره التقوى هاهنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امريء من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه )رواه مسلم
                        فقوله صلى الله عليه وسلم ( لا تحاسدوا ) يعني لا يحسد بعضكم بعضا والحسد مركوز في طباع البشر وهو أن الإنسان يكره أن يفوقه أحد من جنسه في شيء من الفضائل وقد قال السلف ( ماخلا جسد من حسد ) وهو أول ذنب عصي الله بسببه ، وذلك أن أبليس لما رأى آدم عليه السلام قد فاق على الملائكة بأن الله خلقه بيده وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء وأسكنه في جواره فحسده على ذلك وأبى السجود له فلعن أبليس وكان شيطاناً رجيماً ، والحسد من صفات اليهود قال تعالى ( ود كثيرمن أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبينلهم الحق ، وقوله أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله
                        وخرج الحاكم وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( سيصيب أمتي داء الأمم قالوا يا نبي الله وما داء الأمم قال الأشر والبطر والتكاثر والتنافس في الدنيا والتباغض والتحاسد حتى يكون البغي ثم الهرج )

                        أيها المسلمون والناس مع الحسد ينقسمون إلى أقسام فمنهم من يسعى في زوال نعمة المحسود بالبغي عليه بالقول والفعل سواء سعى في نقل ذلك إلى نفسه أو أراد فقط إزالة نعمة المحسود من غير نقلها إلى نفسه وهو شرهما وأخبثهما ، وقسم آخر من الناس إذا حسد غيره لم يعمل بمقتضى حسده ولم يبغ على المحسود بقول ولا بفعل وهذا لا يأثم بذلك
                        وقسم من الناس يسعى في اكتساب مثل فضائل غيره فيتمني أن يكون مثله فإن كانت الفضائل دنيوية فلا خير في ذلك كما قال الله تعالى ( قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون ) القصص ، وإن كانت فضائل دينية فهو حسن وقد تمني النبي صلى الله عليه وسلم الشهادة في سبيل الله وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم قال ( لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل و آناء النهار ) وهذا هو الغبطة وسماه حسدا من باب الاستعارة ، وقسم آخر من الناس إذا وجد في نفسه الحسد سعي في إزالته وفي الإحسان إلى المحسود بإبداء الإحسان إليه والدعاء له ونشر فضائله وفي إزالة ما وجد له في نفسه من الحسد حتى يبدله بمحبته أن يكون المسلم خيرا منه وأفضل وهذا من أعلي درجات الإيمان وصاحبه هو المؤمن الكامل الذي يحب لأخيه ما يحب لنفسه .
                        وقوله صلى الله عليه وسلم ( ولا تناجشوا ) وأصل النجش في اللغة إثارة الشيء بالمكر والحيلة والمخادعة والمراد ما يكون فيه إيصال الأذى والضرر إلى المسلم ، وفسر كثير من العلماء النجش في البيع بأن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها إما لنفع البائع لزيادة الثمن له أو بإضرار المشتري بتكثير الثمن عليه ، وفي حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم ( من غشنا فليس منا والمكر والخداع في النار) .

                        وقوله صلى الله عليه وسلم ( ولا تباغضوا ) نهى المسلمين عن التباغض بينهم في غير الله تعالى ، وحرم الله على المؤمنين ما يوقع بينهم العداوة والبغضاء كما قال تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ )

                        وحرم الله عز وجل المشي بالنميمة بين الناس لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء ورخص في الكذب في الإصلاح بين الناس ورغب الله في الإصلاح بينهم كما قال تعالى : ( لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا )
                        وقال (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، وجعل الإصلاح أفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة خرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذى من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة قالوا بلى يا رسول الله قال إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة )

                        فالمسلمين جعلهم الله إخوة والإخوة يتحابون بينهم ولا يتباغضون وقال النبي صلى الله عليه وسلم ( والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا ألا أدلكم على شيء إذا فعلمتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم ) خرجه مسلم
                        قوله ( ولا تدابروا ) و التدابر المصارمة والهجران مأخوذ من أن يولي الرجل صاحبه دبره ويعرض عنه بوجهه وهو التقاطع ، وعن أبي أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ) وخرج أبو داود من حديث أبي خراش السلمي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه ) وكل هذا في التقاطع للأمور الدنيوية فأما لأجل الدين فتجوز الزيادة على الثلاثة نص عليه الإمام أحمد واستدل بقصة الثلاثة الذين خلفوا وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهجرانهم لما خاف منهم النفاق وأباح هجران أهل البدع المغلظة والدعاة إلى الأهواء وذكر الخطابي أن هجران الوالد لولده والزوج لزوجته وما كان في معنى ذلك تأديبا تجوز الزيادة فيه على الثلاث لأن النبي صلى الله عليه وسلم هجر نساءه شهرا وروى عن مالك أنه قال لا يقطع الهجران بدون العودة إلى المودة وفرق بعضهم بين الأقارب والأجانب فقال في الأجانب يزول الهجر بينهم بمجرد السلام بخلاف الأقارب وإنما يقال بهذا لوجوب صلة الرحم .

                        قوله صلى الله عليه وسلم ( ولا يبيع بعضكم على بيع بعض ) ومعنى البيع على بيع أخيه أن يكون قد باع منه شيئا فيبذل للمشتري سلعته ليشتريها ويفسخ بيع الأول .

                        وقوله صلى الله عليه وسلم ( وكونوا عباد الله إخوانا ) هكذا ذكره النبي صلى الله عليه وسلم كالتعليل لما تقدم وفيه إشارة إلى أنهم إذا تركوا التحاسد والتناجش والتباغض والتدابر وبيع بعضهم على بعض كانوا إخوانا وفيه أمر باكتساب ما يصير المسلمون به إخوانا على الإطلاق وذلك يدخل فيه أداء حقوق المسلم على المسلم من رد السلام وتشميت العاطس وعيادة المريض وتشييع الجنازة وإجابة الدعوة والابتداء بالسلام عند اللقاء والنصح بالغيب وفي المودة .

                        وقوله صلى الله عليه وسلم ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره ) وهذا مأخوذ من قوله تعالى ( إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ) فإذا كان المؤمنون إخوة أمروا فيما بينهم بما يوجب تآلف القلوب واجتماعها ونهوا عما يوجب تنافر القلوب واختلافها وهذا من ذلك ، وأما النهي عن الظلم فقد قال الله عزوجل في الحديث القدسي ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ) وأمل قوله ( لايخذله ) فالمؤمن مأمور أن ينصر أخاه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( انصر أخاك ظالما أو مظلوما قال يا رسول الله أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما قال تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه ) وخرج البزار من حديث عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من نصر أخاه بالغيب وهو يستطيع نصره الله في الدنيا والآخرة ) .

                        وقوله ( لايكذبه ) فلا يحل للمسلم أن يحدث أخاه إلا صدقا قال صلى الله عليه وسلم ( والكذب يهدي إلى الفجور والفجور والفجور يهدي إلى النار )

                        وقوله ( لايحقره ) فاحتقار المسلم لأخيه المسلم ناشئ عن الكبر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( الكبر بطر الحق وغمط الناس ) خرجه مسلم وغمط الناس الطعن عليهم وازدراؤهم قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ).
                        فالمتكبر ينظر إلى نفسه بعين الكمال وإلي غيره بعين النقص فيحتقرهم ويزدريهم ولا يراهم أهلا لأن يقوم بحقوقهم ولا أن يقبل من أحدهم الحق إذا أورده عليه .

                        وقوله صلى الله عليه وسلم ( التقوى هاهنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات ) فيه إشارة إلى أن كرم الخلق عند الله بالتقوى فرب من يحقره الناس لضعفه وقلة حظه من الدنيا هو أعظم قدرا عند الله تعالى ممن له قدر في الدنيا فإنما الناس يتفاوتون بحسب التقوى كما قال الله تعالى ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) .وسئل النبي صلى الله عليه وسلم من أكرم الناس فقال ( أتقاهم لله تعالى ) ، وفي حديث آخر الكرم التقوى والتقوى أصلها في القلب كما قال الله تعالى (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) وإذا كان أصل التقوى في القلوب فلا يطلع أحد على حقيقتها إلا الله تعالى كما قال صلى الله عليه وسلم (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) وعن حارثة بن وهب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف مستضعف لو أقسم على الله لأبره ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر) ،وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد قال مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس (ما رأيك في هذا فقال رجل من أشراف الناس هذا والله حري إن خطب أن ينكح وإن شفع أن يشفع وإن قال أن يسمع لقوله قال فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ثم مر رجل آخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأيك في هذا قال يا رسول الله هذا رجل من فقراء المسلمين هذا حري إن خطب أن لا ينكح وإن شفع أن لا يشفع وإن قال لا ويسمع لقوله فقال رسول صلى الله عليه وسلم هذا خير من ملء الأرض مثل هذا) وقال محمد بن كعب القرظي في قوله تعالى (إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة خافضة رافعة ) الواقعة ، قال تخفض رجالا كانوا في الدنيا مرتفعين وترفع رجالا كانوا في الدنيا مخفوضين.

                        قوله صلى الله عليه وسلم ( بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ) يعني يكفيه من الشر احتقاره أخاه المسلم فإنه إنما يحقر أخاه المسلم لتكبره عليه والكبر من أعظم خصال الشر وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر )، والمحتقر منازع لله في صفاته التي لا تليق بالمخلوق وكفي بهذا شرا قال صلى الله عليه وسلم قال تعالى ( العز إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني عذبته ) قوله صلى الله عليه وسلم ( كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه )فلا يحل للمسلم لا يحل أن يؤذي أخاه المسلم بوجه من الوجوه من قول أو فعل بغير حق قال الله تعالى ( والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا) الأحزاب .
                        عند أبي داود عن بعض الصحابة أنهم كانوا يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل منهم فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذها ففزع فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( لا يحل لمسلم أن يروع مسلما ) وخرج أحمد وأبو داود والترمذى عن السائب بن يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا يأخذ أحدكم عصا أخيه لاعبا جادا فمن أخذ عصا أخيه فليردها إليه ) .
                        وخرج الإمام أحمد من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا تؤذوا عباد الله ولا تعيروهم ولا تطلبوا عوارتهم فإن من طلب عورة أخيه المسلم طلب الله عورته حتى يفضحه في بيته ) .
                        وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الغيبة فقال ذكرك أخاك بما يكره قال أرأيت إن كان فيه ما أقول فقال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته ) .

                        وإنما جعل الله المؤمنين إخوة ليتعاطفوا ويتراحموا وفي الصحيحين عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكي منه عضو تداعي له سائر الجسد بالحمى والسهر ) ، وعن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ) ، وخرج أبو داود من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( المؤمن مرآة المؤمن المؤمن أخو المؤمن يكف عنه ضيعته ويحوطه من ورائه ...






                        ********************************************



                        خطبة اليوم لفضيلة الشيخ : عبد الله الحبيب العنزي








                        تعليق

                        • سُلاف
                          مشرفة المواضيع الإسلامية
                          من مؤسسين الموقع
                          • Mar 2009
                          • 10535





                          فضـــائل شهـر شعبـــــان





                          بسم الله الرحمن الرحيم

                          الخطبة الأولى:

                          إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

                          أمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كَلَامُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُها، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

                          وَبَعْدُ؛ فَيَا عِبَادَ اللهِ: قَدْ صَحَّ وَثَبَتَ عَنْ نَبِيِّ الْإِسْلَامِ رَسُولِنَا الْكَرِيمِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلامُ- أَنَّهُ قَالَ: »إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ أَلَا فَتَعَرَّضُوا لَهَا وَسَلُوا اللهَ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ وَأَنْ يُؤْمِنَ رَوْعَاتِكُمْ«؛ هَذَا الْحدِيثُ الْجَلِيلُ يُبيِّنُ أَمْرَيْنِ مُهِمَّيْنِ يَجِبُ عَلَى عَبِيدِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّ يَتَنَبَّهُوا إِلَيْهِ وَأَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَيْهِ؛ أَوَّلُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ: هُوَ التَّحَيُّنُ لِلأَوْقَاتِ الْمُبَارَكَةِ وَلِلأَزْمِنَةِ الْفَاضِلَةِ؛ فَاللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى-وَلَهُ الشَّأنُ كُلُّهُ، وَلَهُ الْخِيَرَةُ كُلُّهَا- اخْتَارَ مِنْ خَلْقِهِ أَشْخَاصًا وَأَزْمَانًا وَأَمْكِنَةً جَعَلَ لَهَا مِنَ الْفَضْلِ، وَجَعَلَ لَهَا مِنَ الْمَزَايَا مَا قَدْ يَكُونُ لَهَا -فَقَطْ- وَلَا يَكُونُ لِغَيْرِهَا. وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي: فَهُوَ أَنْ يُحَافِظَ الْعَبْدُ عَلَى دُعَاءٍ يَكُونُ فِيهِ نَجَاتُهُ، وَتَكُونُ فِيهِ حِمَايَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؛ فَسَلُوا اللهَ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ وَأَنْ يُؤْمِنَ رَوْعَاتِكُمْ. فنَسْأَلُ اللهَ الْعَظِيمَ-جَلَّ فِي عُلَاهُ، وَعَظُمَ فِي عَالِي سَمَاهُ- أَنْ يَسْتُرَ مِنَّا الْعَوْرَاتِ، وَأَنْ يُؤْمِنَنَا فِي الرَّوْعَاتِ؛ إِنَّهُ -سُبْحَانَهُ- وَلَيُّ ذَلِكَ، وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ.

                          وَمِنْ هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ الْمُبَارَكَةِ، وَهَذِهِ النَّفَحَاتِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي اخْتَصَّ اللهُ -تَعَالَى- بِهَا بَعْضَ الزَّمَانِ هَذِهِ الأَيَّامُ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا؛ فَنَحْنُ فِي غُرَّةِ شَهْرِ شَعْبَانَ؛ هَذَا الشَّهْرُ الْكَرِيمُ الَّذِي يَأْتِي بَيْنَ رَمَضَانَ وَرَجَبٍ؛ فَيَكُونُ تَالِيًا لِرَجَبٍ وَسَابِقًا [لِرَمَضَانَ] حَتَّى كَانَ لَهُ خُصُوصِيَّةٌ -بَلْ خَصَائِصُ مُتَعَدِّدَةٌ- ذَكَرَهَا لَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ-تَعَالَى-عَنْهُما- قَالَ: قُلْتُ: (يَا رَسُولَ اللهِ! مَا لِي أَرَاكَ تَصُومُ فِي شَعْبَانَ أَكْثَرَ مِمَّا تَصُومُ فِي غَيْرِهِ؟) يَعْنِي: مِنْ غَيْرِ رَمَضَانَ -وَهُوَ الشَّهْرُ الْمَفْرُوضُ صِيَامُهُ-؛ فقَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلامُ-: »شَهْرُ شَعْبَانَ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ، تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى اللهِ، وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ تُرْفَعَ أَعْمَالِي فِيهِ إِلَى اللهِ وَأَنَا صَائِمٌ« هَذَا حَدِيثُ رَسُولِ اللهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلامُ- الَّذِي بَيَّنَ فِيهِ غَفْلَةَ النَّاسِ -بَلْ أَكْثَرِ النَّاسِ- عَنْ صِيَامِ هَذَا الشَّهْرِ، وَعَمَّا فِيهِ مِنْ فَضَائِلَ، وَعَمَّا فِيهِ مِنْ مَزَايَا وَخَصَائِصَ مِمَّا قَدْ لَا يَتَنَبَّهُ لَهُ الْكَثِيرُونَ -بَلْ قَدْ يَغْفُلُ عَنْهُ وَيُغْفِلُهُ الْأَكْثَرُونَ-.

                          وَأَمَّا هَذَا الشَّهْرُ؛ فَاسْمُهُ شَعْبَانُ، وَلِهَذَا الْاسْمِ مَعْنًى عِنْدَ الْعَرَبِ؛ فَقَدْ ذَكَرَ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ: أَنَّ شَعْبَانَ سُمِّيَ بِهَذَا الاسْمِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَكُونُ فِي شَهْرِ رَجَبٍ مُمْتَنِعَة عَنِ الْحَرْبِ وَمُمْتَنِعَة عَنِ الْقِتَالِ -لِأَنَّهُ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحَرَامِ وَمِنَ الْأَشْهُرِ الْمُحَرَّمَةِ-، فَإِذَا انْقَضَى شَهْرُ رَجَبٍ تَشَعَّبَ الْعَرَبُ لِلْقِتَالِ، وَتَشَعَّبَ الْعَرَبُ لِيَأْخُذُوا أُمُورَهُمْ مِمَّا يَكُونُ فِيهِ وُجُودُهُمْ مِنْ خِلَالِ مَا كَانَ يَجْرِي بَيْنَ الْقَبَائِلِ؛ فَشَعْبَانُ مِنَ الشُّعَبِ أَوْ مِنَ التَّشَعُّبِ. وَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ هَذَّبَ كَثِيرًا مِنْ أَخْلَاقِ الْعَرَبِ، وَهَذَّبَ كَثِيرًا مِنْ سُلُوكِيَّاتِهِمْ، وَحَافَظَ عَلَى مَا كَانُوا فِيهِ مُوَافِقِينَ لِلفِطْرَةِ، غَيْرَ مُغَيِّرِينَ، وَغَيْرَ مُبَدِّلِينَ، فَكَانُوا فِي بَقَايَا مِنْهُمْ- عَلَى شَيْءٍ مِنْ فِطْرَةِ اللهِ -بِالرُّغْمِ مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنْ جَاهِلِيَّةٍ جَهْلَاءَ، وَمِنْ عَمَايَةٍ سَوْدَاءَ-أَعَاذَنَا اللهُ -تَعَالَى-وَإِيَّاكُمْ-.

                          وَلَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ -رَضِيَ اللهُ-تَعَالَى-عَنْهُم- يُسَمُّونَ شَهْرَ شَعْبَانَ (شَهْرَ الْقُرَّاءِ)، كَمَا وَرَدَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ -رَحِمَهُ اللهُ- قَالَ: (شَهْرُ شَعْبَانَ شَهْرُ الْقُرَّاءِ)، وَقَالَ غَيْرُهُ: (شَهْرُ شَعْبَانَ شَهْرُ الْقُرْآنِ)، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا اسْتِعْدَادًا، وَتَهْيِئَةً لِلنُّفُوسِ، وَاسْتِعْدَادًا لِلْجَوَارِحِ وَالْأَبْدَانِ؛ حَتَّى تَسْتَقْبِلَ هَذَا الشَّهْر، وَحَتَّى تَتَهَيَّأَ لَهُ؛ لِذَلِكَ مِنْ ضِمْنِ هَذَا التَّهَيُّؤِ، وَمِنْ ضِمْنِ هَذِهِ التَّهْيِئَةِ: مَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي »مُسْنَدِهِ« -رَحِمَهُ اللهُ- أَنَّهُ قَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلامُ-: »إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلَا تَصُومُوا«؛ فَالسُّنَّةُ -وَلَوْ مِنْ بَابِ الْأَحْوَطِ، وَأَقُولُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ الْخِلَافَ لِأَمَانَةِ الْعِلْمِ وَأَدَاءً لِحَقِّهَا-؛ أَقُولُ: صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: »إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَأَمْسِكُوا عَنِ الصِّيَامِ« -فِي رِوَايَةٍ-، وَفِي رِوَايَةٍ: »فَلَا تَصُومُوا«، وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى: »فَأَمْسِكُوا عَنِ الصِّيَامِ« فِيهِا فَائِدَةٌ: وَهِيَ أَنَّ الْخِطَابَ لِمَنْ هُوَ مُعْتَادٌ عَلَى الصِّيَامِ، وَلِمَن هُوَ مُتَلَبِّسٌ بِالصِّيَامِ أَنْ يُمْسِكَ عَنِ الصِّيَامِ، وَلَا يُقَالَ: (أَمْسِكْ) لِمَنْ هُوَ -أَصْلًا- غَيْرُ قَائِمٍ بِالصِّيَامِ، أَوْ غَيْرُ مُتَلَبِّسٍ بِفِعْلٍ مُعَيَّنٍ؛ فَهَذَا مِنْ نَفْسِ الْبَابِ، وَمِنْ نَفْسِ الطَّرِيقَةِ وَالْحَقِيقَةِ: أَنَّ النُّفُوسَ يَجِبُ أَنْ تَتَهَيَّأَ لِشَهْرِ الصِّيامِ، لِشَهْرِ الْقُرْآنِ؛ حَتَّى يَكُونَ -ثَمَّةَ- مِيزَةٌ خَاصَّةٌ لِشَهْرِ رَمَضَانَ، هَذَا الشَّهْرُ الْعَظِيمُ الَّذِي نَحْنُ عَلَى بُعْدِ أَسَابِيعَ مِنْهُ -سَائِلِينَ اللهَ-تَبَارَكَ وتَعَالَى- أَنْ يُبَلِّغَنَا إِيَّاهُ، وَأَنْ يُعِينَنَا فِيهِ عَلَى الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ، وَعَلَى الْالْتِزَامِ بِالْأَحْكَامِ، وَعَلَى الثَّبَاتِ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ-.

                          شَهْرُ شَعْبَانَ شَهْرٌ عَظِيمٌ، فِيهِ يَوْمٌ فِيهِ مَزِيَّةٌ عَلَى كُلِّ أَيَّامِ الْعَامِ؛ وَهُوَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ. لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ صَحَّتْ فِيهِا فَضِيلَةٌ، وَلَمْ تَصِحَّ فِيهِا فَضَائِلُ أُخَرُ ذُكِرَتْ فِي كُتُبِ السِّيَرِ، وَنُقِلَتْ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَفِي كُتُبِ الْفِقْهِ؛ لَكِنَّ الثَّابِتَ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-فَقَطْ-فِي ذَلِكَ-؛ أَنَّهُ قَالَ: »إِنَّ اللهَ يَطَّلِعُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِخَلْقِهِ جَمِيعًا إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ«.

                          فَتَفَقَّدُوا أَنْفُسَكُمْ -أَيُّهَا الْإِخْوَةُ فِي اللهِ!-، تَفَقَّدُوا قُلُوبَكُمْ، تَفَقَّدُوا أَلْسِنَتَكُمْ، تَفَقَّدُوا جَوَارِحَكُمْ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ قَولٌ بِاللِّسَانِ، وَاعْتِقَادٌ بِالْقَلبِ وَالْجَنَانِ، وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِِحِ وَالْأَرْكَانِ؛ يَزِيدُ بِطَاعَةِ الرَّحْمَنِ، [وَيَنْتقِصُ بِطَاعَةِ الشَّيْطَانِ]؛ فَاحْذَرُوا أَنْ تُلَابِسُوا، أَوْ أَنْ تَتَلَبَّسُوا بِشَيْءٍ مِمَّا فِيهِ مُخَالَفَةُ هَذَا الْأَمْرِ، وَمِمَّا فِيهِ مُخَالَفَةُ هَذَا الْمَعْنَى؛ فَكُلُّ زِيَادَةٍ فِي الْعَمَلِ زِيَادَةٌ فِي الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، وَكُلُّ انْتِقَاصٍ مِنَ الْعَمَلِ فِيهِ انْتِقَاصٌ لِلْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى. فَهَذَا نَبِيُّ الْإِسْلَامِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلامُ- يَقُولُ -وَقَوْلُهُ الْحَقُّ، وَقَوْلُهُ الصِّدْقُ-: »إِنَّ اللهَ يَطَّلِعُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ«.

                          وَالشِّرْكُ أَنْوَاعٌ: مِنْهُ الشِّـرْكُ الْقَوْلِيُّ، وَمِنْهُ الشِّـرْكُ الْعَمَلِيُّ، وَمِنْهُ الشِّـرْكُ الاعْتِقَادِيُّ؛ فَيَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ -وَإِنْ تَفَاوَتَتْ دَرَجَاتُ شَرِّ الشِّـرْكِ هَذِهِ-؛ فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَهَا -جَمِيعًا-، وَأَنْ يَحْذَرَهَا جَمِيعًا، لَا أَنْ يَتَهاوَنَ وَأَنْ يُسَهِّلَ وَأَنْ يَقُولَ: هَذَا أَمْرٌ يَسِيرٌ! هَذَا أَمْرٌ خَفِيفٌ! هَذَا أَمْرٌ مِنَ الْقُشُورِ!! هَذِهِ فَلْسَفَاتٌ شَيْطَانِيَّةٌ، وَإِنْ جَاءَتْ عَلَى بَعْضِ أَلْسِنَةِ بَنِي آدَمَ؛ فَالوَاجِبُ الْحَذَرُ مِنْهَا، وَالْمُحَاذَرَةُ عَنْهَا، وَالتَّحْذِيرُ مِنْ شَرِّهَا وَخَطَرِهَا -مَا اسْتَطَاعَ الْمُؤْمِنُ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا-. وَفِي هَذَا التَّحْذِيرِ تَحْقِيقٌ لِمَعْنَى قَوْلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَالْعَصْـرِ - إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْـرٍ - إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}؛ فَالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ، وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ لَا تَكُونُ لَهُ حَقِيقَةٌ مَوْجُودَةً حَقَّ الْوُجُودِ إِلَّا بِأَنْ يُحَذِّرَ بَعْضُنَا بَعْضًا مِمَّا فِيهِ مُخَالَفَةُ الشَّـرْعِ، إِلَّا بِأَنْ يُوصِيَ بَعْضُنَا بَعْضًا بِمَا فِيهِ مُتَابَعَةُ الْأَمْرِ، كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا}، وكَمَا قَالَ -تَعَالَى-: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ}.

                          أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ! أَيُّهَا الْإِخْوَةُ فِي اللهِ! إِنَّ الشِّرْكَ وَالشَّحْنَاءَ الَّتِي قَدْ تَرِدُ عَلَى الْقُلُوبِ، وَقَدْ تَصِلُ إِلَى الْجوَارِحِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَلْسِنَةِ؛ يَجِبُ نَبْذُهَا نَبْذَ النَّوَاةِ، وَيَجِبُ الْحَذَرُ مِنْهَا وَالْمُحَاذَرَةُ عَنْهَا؛ حَتَّى لَا نَكُونَ مَحْرُومِينَ مِنْ هَذَا الْفَضْلِ، حَتَّى لَا نَكُونَ مَحْرُومِينَ مِنْ هَذَا الْأَجْرِ، حَتَّى لَا نَكُونَ مَحْرُومِينَ مِنْ هَذَا الثَّوَابِ، فَأَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَحْرُومِينَ، وَلَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَرْحُومِينَ؟! مَنْ رَضِيَ لِنَفْسِهِ الْحِرْمَانَ؛ فَهُوَ شَقِيٌّ، وَمَنْ نَبَذَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ رَاضِيًا مَرْضِيًّا، وَهَادِيًا مَهْدِيًّا، وَقَاضِيًا بِعَظِيمِ الرَّجَاءِ وبكثيرٍ مِنَ الرَّغْبَةِ بِمَا عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَ الثَّوَابِ؛ فَلَهُ الرَّحْمَةُ وَلَهُ الرِّضَا. فَالشِّرْكُ بِاللهِ مِنْ مُحْبِطَاتِ الْأَعْمَالِ {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، وَالْحِقَدُ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَعْرِفُ الْحِقْدُ قُلُوبَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا نُفُوسَهُمْ، وَالنَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلامُ- بَيَّنَ أَنَّ مَخْمُومَ الْقَلْبِ هُوَ الَّذِي لَا حِقْدَ وَلَا غِلَّ وَلَا غِشَّ.

                          فَلْنَحْرِصْ جَمِيعًا عَلَى أَنْ نَكُونَ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَفِي هَذَا الإطارِ، وَفِي هَذِهِ الأَيَّامِ الْمُبَارَكَةِ أَنْ نُهَيِّئَ أَنْفُسَنَا لِنَنْظُرَ وَنُرَاقِبَ وَنَتَرَقَّبَ: أَيْنَ أَفْعَالُنَا؟ أَيْنَ قُلُوبُنَا؟ أَيْنَ أَلْسِنَتُنَا؟ أَيْنَ هَذِهِ الْأُمُورُ الشِّـرْكِيَّةُ، حَتَّى لَوْ صَغُرَتْ وَحَقُرَتْ وَتَضَاءَلَتْ {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}، وَانْظُرْ فِي نَفْسِكَ -يَا عَبْدَ اللهِ- أَلَكَ شَحْنَاءُ وَحِقْدٌ عَلَى جَارٍ أَوْ صَدِيقٍ أَوْ عَزِيزٍ أَوْ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ؟ وَالشَّحْنَاءُ مَا كَانَتْ مُتَمَحِّضَةً مِنْ أَعْمَالِ الدُّنْيَا، وَمِنْ شُؤُونِ الدُّنْيَا؛ بِأَنْ يَكُونَ سَخَطُكَ وَغَضَبُكَ لَيْسَ لِله، وَلَيْسَ لِشَرِيعَةِ اللهِ؛ وَإِنَّمَا رَدَّةُ فِعْلٍ، أَوِ اتِّخَاذُ مَوْقِفٍ بِسَبَبِ الدُّنْيَا أَوْ شَيْءٍ مِنْهَا، وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: »مَنْ أَحَبَّ للهِ، وَكَرِهَ للهِ، وَأَعْطَى للهِ، وَمَنَعَ للهِ؛ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ«، وَيَقُولُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلامُ-: »أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ: الْحُبُّ فِي اللهِ، وَالبُغْضُ فِي اللهِ«. إِذَا نَظَرْتَ إِلَى نَفْسِكَ -بِلِسَانِكَ وَقَلْبِكَ وَجَارِحَتِكَ-، وَأَيْقَنْتَ أَنَّ هَذِهِ الشَّحْنَاءَ الَّتِي تَقْتَنِصُهَا فِي قَلْبِكَ نَحْوَ زَيْدٍ أَوْ عَمْرٍو إِنَّمَا هِيَ للهِ؛ فَاثْبُتْ عَلَى أَمْرِ اللهِ، فَهَذَا هَجْرٌ شَرْعِيٌّ لَكَ فِيهِ أَجْرٌ وَمَثُوبَةٌ. وَإِنْ كَانَتْ نَفْسُكَ قَدْ لَعِبَتْ عَلَيْكَ وَأَتْعَبَتْكَ، وَحَرَّفَتْ نِيَّتَكَ إِلَى السُّوءِ وَالْبَلَاءِ، وَلَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ؛ أَقُولُ: فَاحْرِصْ أَنْ تُجَاهِدَ نَفْسَكَ، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}، احْرِصْ أَنْ تُجَاهِدَ نَفْسَكَ عَلَى نَبْذِ هَذِهِ الْمُشَاحَنَةِ، وَعَلَى نَبْذِ تِلْكُمُ الشَّحْنَاءِ، وَاحْرِصْ أَنْ تَكُونَ أَنْتَ الْبَادِئَ بِالْخَيْرِ؛ حَتَّى تَكُونَ نَائِلًا لِأَعْظَمِ أَبْوَابِ الْأَجْرِ وَالثَّوَاب مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وتَعَالَى-. أَسْأَلُ اللهَ الْعَظِيمَ أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُمْ لِلْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ إِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ. أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ.

                          الخطبة الثانية:

                          الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ الْهَادِي الصَّادِقِ الْوَعْدِ الْأَمِينِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ -رَضِيَ اللهُ-تَعَالَى-عَنْهُمْ-أَجْمَعِينَ-.

                          مِمَّا يَتَدَاوَلُهُ النَّاسُ، وَيُذْكَرُ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَتُوَزَّعُ فِيهِ بَعْضُ النَّشَـرَاتٍ -فِي مِثْلِ أَيَّامِ شَعْبَانَ الْمُبَارَكَةِ الَّتِي نَتَفَيَّأُ ظِلَالَهَا- حَدِيثٌ يَذْكُرُونَهُ أَنَّهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلَمْ يَصِحَّ وَلَمْ يَثْبُتْ؛ بَلْ قَدْ ذَكَرَ أَئِمَّةُ الْعِلْمِ وعُلَمَاءُ السُّنَّةِ وَعُلَمَاءُ الْحَدِيثِ مِنَ الْمُخْتَصِّينَ فِي هَذِهِ الْعُلُومِ الدَّقِيقَةِ، وَفِي هَذِهِ الْفُنُونِ الْعَمِيقَةِ؛ ذَكَرُوا أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فِي فَضْلِ شَعْبَانَ مِنْ خُصُوصِيَّةٍ إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ -ذَلِكَ- الْمُتَدَاوَلُ وَالَّذِي فِيهِ: »إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَقُومُوا لَيْلَهُ وَصُومُوا نَهَارَهُ«؛ فَهَذَا حَدِيثٌ لَا يَصِحُّ وَلَا يَثْبُتُ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَالنَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلامُ- يَقُولُ: »إِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الْحَدِيثِ عَنِّي، إِلَّا مَا عَلِمْتُمُوهُ صِدْقًا وَعَدْلًا«، وَفِي مَعْنَاهُ: الْحَدِيثُ الَّذِي حَسَّنَهُ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ قَوْلُهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلامُ-: »اتَّقُوا الْحَدِيثَ عَنِّي إِلَّا مَا عَلِمْتُمْ«، وَيَقُولُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلامُ-: »إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ«، وَيَقُولُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلامُ-: »مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى« أَيْ: يُظَنُّ »يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ؛ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبَيْنِ«. يَقُولُ الْإِمَامُ ابْنُ حِبَّانَ شَارِحًا هَذَا الْحَدِيثَ قَالَ: (فَالَّذِي يَشُكُّ فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ صَحِيحٌ أَوْ ضَعِيفٌ مِنْ غَيْرِ تَأَكُّدٍ مِنْ صِحَّتِهِ؛ كَالكَاذِبِ عَلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)؛ فَكَيْفَ بِبَعْضِ النَّاسِ مِمَّنْ يُورِدُونَ أَحَادِيثَ لَا خِطَامَ لَها وَلَا زِمَامَ، ثُمَّ يَنْسِبُونَهَا وَيُسْنِدُونَهَا وَيَجْزِمُونَ بِنِسْبَتِهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-! فَهَذَا خَطَأٌ كَبِيرٌ وَخَطَرٌ كَثِيرٌ.

                          وَمِمَّا يَجِبُ أَنْ نُنَبِّهَ عَلَيْهِ أُمَّهَاتِنَا وَبَنَاتِنَا وَأَخَوَاتِنَا وَزَوْجَاتِنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِقَضَاءِ أَيَّامِ الْفِطْرِ الَّتِي قَدْ أَذِنَ اللهُ لَهُنَّ بِفِطْرِهَا بِسَبَبِ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ؛ فَكَثِيرٌ مِنَ النِّسَاءِ تَرَاهَا تُؤَجِّلُ الْقَضَاءَ إِلَى شَهْرِ شَعْبَانَ، وَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ تُعَجِّلَ حَتَّى إِذَا جَاءَ شَعْبَانُ أَقْبَلَتْ عَلَى صِيَامِ النَّافِلَةِ، وَأَقْبَلَتْ عَلَى المُتَابَعَةِ والاتِّبَاعِ لِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي كَانَ يُكْثِرُ مِنْ صِيَامِ شَعْبَانَ -كَمَا قَدَّمْنَا-.

                          وَبَعْضُ الْمُتَفَقِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ -وَقَلِيلٌ مَا هُنَّ- تَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ لَا تَصُومُ مَا عَلَيْهَا مِنَ الْقَضَاءِ إِلَّا فِي شَعْبَانَ، وَتَقِفُ! مَعَ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ لَفْظَيْنِ يُفَسِّرَانِ فِقْهَ الْحَدِيثِ، وَيُفقِّهَانِ الْغَائِبَ عَنْ فَهْمِهِ الصَّحِيحِ؛ أَمَّا الرِّوَايَةُ الْأُولَى: فَهُوَ قَوْلُهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: (لِمَا كَانَ يَشْغَلُنِي مِنْ شَأْنِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)؛ إِذَنْ: كَانَتْ تُؤَخِّرُ ذَلِكَ لِسَبَبِ شُغْلِهَا وَانْشِغَالهَا بِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَمَنْ مِثْلُ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-!؟ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى الْمُفَسِّرَةُ -أَيْضًا- قَالَتْ: (حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-). إِذَنْ: لَمَّا تُوُفِّيَ الرَّسُولُ -عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- لَمْ تَكُنْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- تُؤَخِّرُ شَيْئًا مِنَ الْقَضَاءِ إِلَى هَذِا الْوَقْتِ وَإِلَى هَذِهِ الأَيَّامِ الْمُبَارَكَةِ.

                          وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ وَأَنْ يُنَبَّهَ عَلَيْهِ: أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ وَقَبْلَ رَمَضَانَ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، يَقُولُ فِي نَفْسِهِ: (أُرِيدُ أَنْ أَصُومَ هَذَا الْيَوْمَ؛ لَعَلَّهُ يَكُونُ هَذَا الْيَوْمُ رَمَضَانَ، وَنَحْنُ لَا نَدْرِي! لَعَلَّنَا أَخْطَأْنَا الرُّؤْيَةَ، لَعَلَّنَا لَمْ نَكْتَشِفِ الْهِلَال؛ فَنَصُومُ ذَلِكَ احْتِيَاطًا)! وَهَذَا خَطَأٌ قَبِيحٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَى خَطَئِهِ: نَصَّانِ عَنْ رَسُولِ الْإِسْلَامِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلامُ-: أَمَّا النَّصُّ الْأَوَّلُ: فَقَوْلُهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلامُ-: »الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ«، وَفِي لَفْظٍ: »الصَّوْمُ يَوْمَ يَصُومُ النَّاسُ، وَالْفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ«؛ فَلَيْسَ الصَّوْمُ عِبَادَةً فَرْدِيَّةً -أَعْنِي: صِيَامَ رَمَضَانَ-؛ وَإِنَّمَا هُوَ عِبَادَةٌ جَمَاعِيَّةٌ. وَأَمَّا النَّصُّ الثَّانِي: فَهُوَ حَدِيثُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ -رَضِيَ اللهُ-تَعَالَى-عَنْهُ- قَالَ: (مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ؛ فقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِه وسَلَّمَ-).

                          فَاحْرِصُوا -أَيُّهَا الْإِخْوَةُ فِي اللهِ!- عَلَى اتِّبَاعِ السُّنَّة، وَحَاذِرُوا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْبِدْعَةِ، وَتَوَاصَوْا فِيمَا بَيْنَكُمْ بِالْحَقِّ وَالصَّبْرِ وَالْمَرْحَمَةِ؛ فَفِي ذَلِكَ حَيَاتُنَا، وَفِي ذَلِكَ وُجُودُنَا، وَفِي ذَلِكَ قِيَامُنَا وَقِوَامُنَا، وَفِي ذَلِكَ سَعَادَتُنَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَبِقَدْرِ مَا نَتَخَلَّفُ عَنْ هَذِهِ الْحَقَائِقِ، وَبِقَدْرِ مَا نُخَالِفُ أَمْرَ اللهِ، وَبِقَدْرِ مَا يَكُونُ فِينَا مِنَ الْكَذِبِ وَالظَّنِّ وَسُوءِ الْقَوْلِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْقَوْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالتَّكَلُّمِ بِغَيْرِ عِلْمٍ بِقَدْرِ مَا يَكُونُ فِينَا مِنَ الضَّلالِ وَالْإِضْلالِ وَالانْحِرَافِ، كَمَا قَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلامُ-: »إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا وَلَكِنْ يَقْبِضُهُ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا فَاسْتَفْتَوْهُمْ فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ«، وَفِي رِوَايَةٍ: »فَأَفْتَوْا بِرَأْيِهِمْ؛ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا«.

                          أَعَاذَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِن الضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ، وَجَعَلَنَا وَإِيَّاكُمْ مِنَ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَه

                          وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمينَ.




                          *******************************************



                          خطبة اليوم لفضيلة الشيخ : علي بن الحسن الحلبي الأثري















                          تعليق

                          • سُلاف
                            مشرفة المواضيع الإسلامية
                            من مؤسسين الموقع
                            • Mar 2009
                            • 10535







                            اغتنــام مواسـم الخيـــرات






                            الخطبة الأولى

                            الحمد لله على نعمه الباطنة والظاهرة، وأشهدٌ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أدخرها للآخرة، وأشهدٌ أن محمداً عبده ورسوله المُؤيد بالمعجزات الباهرة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ذوي المناقب الفاخرة، وسلم تسليماً كثيرا أما بعد:

                            أيُّها الناس، اتقوا الله تعالى، واشكروه على جزيل نعمه، فإنه سبحانه وتعالى يُوالي عليكم مواسم الخير، لتشغلها بأعمال البر، فما كاد ينتهي شهر رمضان المبارك، حتى أعقبته أشهر الحج إلى بيت الله الحرام، وفيها من الفضائل ما لا يُحصيه إلا الله سبحانه وتعالى، فيها العشر ذو الحجة التي ما من أيام العمل أحب إلى الله، ما من أيام العمل خيرٌ وأحبٌ إلى الله من العمل فيها، وفيها يومُ عرفة الذي يؤدى فيه الركن الأعظم من أركان الحج، والذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:" خير الدعاء، دعاء عرفة، وخير ما قلته والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يُحي ويُميت، وهو على كل شيء قدير"، الحجاج يقفون فيه بين يدي ربهم، وأصحاب الأنصار يصُمُونه، وصيامه فيه فضل عظيم يُكفر السنة الماضية والمستقبلة، وفيه يؤدى الحج إلى بيت الله الحرام، فالحجاج ينالون ما في الحج من الخيرات، والبركات، والطاعات، وغير الحجاج يأتي عليهم عيد الأضحى يذكرون الله جلَّ وعلا فيه ويتقربون إليه بالأضاحي، ثم بعد أشهر الحج، شهر الله المحرم، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:"أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله الذي تدعونه محرم" فيه اليوم العاشر الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم، الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم في فضل صيامه: " أنه يحتسب على الله أن يكفر السنة الماضية"، وهكذا عباد الله، تتوالى عليكم مواسم الخير، وتعيشونها تعيشونها بطاعة الله عز وجل، وذكر الله، وأداء أركان الإسلام من الصيام والحج وما يتب ذلك من الأعمال الصالحة المباركة، فهذه نعم عظيمة من وقفه الله لاغتنام هذه المواسم فقد حاز على خير كثير، ولكن يا عباد الله، يجبُ على المسلم بعد هذه المواسم العظيمة أن يستمر على طاعة الله عز وجل طول حياته، فما هذه المواسم إلى زيادة في أعماله، وتدريب له على فعل الطاعات، فالمسلم يتزود بها من الطاعات ويحصل على المضاعفات من الله ويستمر بعدها على طاعة الله عز وجل، لأنه قد أعتاد الطاعة في هده المواسم العظيمة وسهلة عليه فيستمر عليه طول حياته، هذا هو المسلم التي تكون حياته خير له بالعمل الصالح، فالإنسان لا يخرج من هذه الدنيا إلا بالعمل، لا يخرج منها بمال ولا بنيون ولا بجاه ولا بمظاهر إنما يخرج منها بالعمل، إما أن يكون عملاً صالحاً يفوز فيه، وإما أن يكون عملا سيئاً يشق فيه، والعياذ بالله، قال صلى الله عليه وسلم:"إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"، فنهاية العمل بالموت، قال تعالى (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) أي الموت، فلنستمر على طاعة الله في مدة أعطنا الله في هذه الحياة لنعمرها بطاعة الله، ولنخرج منها بالعمل الصالح الذي نجده عن الله سبحانه وتعالى مُدخراً ومُضاعفاً، هو الذي يبقى لنا، وأما الدنيا فهي فانية بما فيها من كل المظاهر إنها فانية وزائلة ولا تحصل منها إلا على هذا العمل، دخلتها حين خرجت من بطن أمك وأنت عاريِ ليس عليك ثياب، وتخرج منها ليس معك ليس معك من متاعها إلا الكفن الذي تلف فيه، ويسبقك إلى الله جل وعلا عملك، فأحسن العمل ما دمت على قيد الحياة، حافظ على فرائض الله وأتبعها بالنوافل في الحديث القدسِ إن الله سبحانه وتعالى يقول:"وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلا مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ورجله الذي يمشي عليها، ويده الذي يبطش بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ ني لأعذ ينه"، كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يكون مع عبده يُوفقه في جوارحه، وفي سمعه، وفي بصره، وفي جميع أعماله، إذا هو تقرب إليه بالنوافل بعد أداء الفرائض، هذه حصيلتك أيُّها الإنسان من هذه الحياة، فأنتا لم تُخلق لأجل أن تعيش في هذه الدنيا بشهواتها، وأن تعمر قصورها، وتغرس أشجارها، وإنما وجدت في هذه الحياة لتعبرها إلى الآخرة، مستصحباً عملك الذي حصلت عليه في هذه الحياة الدنيا.

                            فلنتقي الله سبحانه وتعالى، نشكره على ما منَّ الله عليه به من مواسم الخير التي مرت بنا، ونستغفره من التقصير الذي حصل منا، ونسأله الثبات في مستقبل حياتنا، ونداوم على العمل الصالح إلا مماتنا.

                            فتقوا الله عباد الله، واعتبروا اعتبروا بالليالي والأيام، وسرعة مرورها، فاغتنموها قبل فواتها (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً)، فعبدٌ يمر عليه الليل والنهار وهو غافل هذا قد ضيع نفسه، وصارت حياته عليه وبالاً، أما العبد الذي ذكر ربَّه، وشكر الله عزَّ وجل في هذه الأيام والليالي بفعل الطاعات فرائضها ونوافلها هذا هو الذي استفاد من حياته، وفقنا الله وإياكم لصالح القول والعمل، وأسأله سبحانه وتعالى أن ينصر دينه، ويعليا كلمته، وأن يدوم علينا وعليكم نعمة الأمني والإيمان والاستقرار في الأوطان إنه تعالى قريب مجيب.





                            الخطبة الثانية

                            الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيرًا أما بعد

                            أيُّها الناس، فمن علامة القبول، من علامة قبول الأعمال في هذه المواسم العظيمة من علامة ذلك أن تكون حال الإنسان بعدها أحسن من حالته قبلها، لأنها عودته على الطاعة، وروضته على العبادة، فألفها وأحبها وداوم عليها، فمن كانت حالته في العبادة بعد هذه المواسم أحسن من حالته قبلها فهذه علامة القبول، وأمَّا من كان بالعكس كانت حالته بعد هذه المواسم شراً من حالته قبل هذه المواسم فهذا دليلٌ على شقاوته، وحرمانه، ودليلٌ على غفلته وتضيعه، ولكن باب التوبة مفتوح فمن كان كذلك فلا يقنط من رحمة الله، وعليه بالمبادرة بالتوبة، فإن الله سبحانه وتعالى يغفر الذنوب جميعا لمن تاب إلى الله عز وجل، فلينظر كل منا في حالته بعد هذه المواسم، هل تحسنت؟ أو ساءت؟ فإن كانت تحسنت فليحمد لله على ذلك، وليستبشر بالقبول، ومن كانت حالته ساءت بعدها فلا يقنط من رحمة الله، ويُبادر بالتوبة إلا الله سبحانه وتعالى، والله يتوب على من تاب، ولا يهلك على الله إلا الهالكون المضيعون.

                            ثم اعلموا عباد الله، أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكُلَ بدعة ضلالة.

                            وعليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة ومن شذَّ شذَّ في النار، (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك نبينا محمد، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائِه الراشدين، الأئمة المهديين، أبي بكر، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ، وعَن الصحابة أجمعين، وعن التابِعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.

                            اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم أنصر من نصر الدين، وخذل من خذل الدين، اللهم اجعل هذا البلد آمناً مستقراً، وسائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين، اللهم أدفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، اللهم أصلح ولاة أمورنا، اللهم خذ بنواصيهم إلى الحق، وهدهم إلى صراطك المستقيم، وجعلهم رحمةً على رعيتهم يا رب العالمين اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين في كل مكان، وقنا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.

                            عبادَ الله، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)، فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبرُ، واللهُ يعلمُ ما تصنعون






                            ****************************************


                            خطبة اليوم لفضيلة الشيخ : صالح بن فوزان الفوزان





                            تعليق

                            • سُلاف
                              مشرفة المواضيع الإسلامية
                              من مؤسسين الموقع
                              • Mar 2009
                              • 10535







                              الكلمــــة أمانــــــــة






                              الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العالمينَ ، وأَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وَلِيُّ الصَّالحينَ، وأَشْهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ ورسولُه، وصَفِيُّهُ مِنْ خَلْقِهِ وخَلِيلُه، اللهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ وبَارِكْ على سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ والتَّابِعِينَ ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحسانٍ إلى يوم الدِّينِ.

                              عبادَ اللهِ: أوصيكُمْ ونفسِي بِتَقْوَى اللهِ فإنَّهُ مَن يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ ويُعْظِمْ لَهُ أَجْراً.

                              أمَّا بَعْدُ : فإنَّ الكَلِمَةَ أمانةٌ ، وقد أمَرَنا اللهُ جَلَّ شأنُهُ بأداءِ الأمانةِ في قولهِ تعالى:(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً).

                              وقال تعالى :(يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وعن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ-رضي الله عنه- أنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: ”اضْمَنُوا لِي سِتّاً مِنْ أنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمُ الجنَّةَ، اصْدُقُوا إذا حَدَّثْتُمْ، وأَوْفُوا إذا وَعَدْتُمْ، وأَدُّوا الأمانةَ إذا ائْتُمِنْتُمْ، واحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ“.

                              عبادَ اللهِ : إنَّ الكلمةَ مِفْتَاحُ الخيرِ، ومِفْتَاحُ الشرِّ أيضاً، وكمَا أنَّها أداةُ بناءٍ فهيَ أيضاً مِعْوَلُ هَدْمٍ ، لذلكَ جاءَ أمرُ اللهِ سبحانَهُ أنْ لاَ نقولَ إلاَّ حُسْنًا ، وأنْ لاَ نتركَ الشيطانَ ينْزَغُ بينَنَا ويُوقعُ العداوةَ والبغضاءَ ، قالَ تعالَى :( وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنـزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا ).

                              أيها المؤمنونَ: وبأداءِ الأمانةِ في الكَلِمَةِ يَسُودُ الحبُّ والوِئامُ، ويَكْثُرُ الخَيْرُ ويَتَضاعَفُ العطاءُ، ويَتَّسِعُ البناءُ ، وتَتَألَّقُ الفضائِلُ وتَزْدَهِرُ الحياةُ، ونَنَالُ رِضْوانَ اللهِ عز وجل ، وبخيانةِ الأمانةِ في الكَلِمَةِ تَتَقَطَّعُ أواصِرُ المحَبَّةِ، ويَقِلُّ الخَيْرُ، ويَتَصَدَّعُ بُنْيانُ الأخلاقِ .

                              وعَنِ الآثارِ الإِيجابِيَّةِ والسَّلْبِيَّةِ للكَلِمَةِ ، قالَ تعالَى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ ).

                              وقالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- :« إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ لاَ يُلْقِى لَهَا بَالاً يَرْفَعُ اللهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لاَ يُلْقِى لَهَا بَالاً يَهْوِى بِهَا فِى جَهَنَّمَ».

                              واعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ أنَّ أداءَ الأمانةِ في الكَلِمَةِ يَشْمَلُ ما دَقَّ وجَلَّ مِنْ أعمالِ الناسِ، ويَسْتَوْعِبُ شُؤونَ الدنيا والآخرَةِ.

                              أيها المؤمنونَ : ومِنَ الأمانةِ في الكَلِمَةِ التَّناجِي بإصلاحِ شؤونِ المجتمع. ثَلاَثَةُ أُمُورٍ مِنْ صَمِيمِ حَيَاةِ النَّاسِ يَتَوَقَّفُ نَجَاحُها وكمالُ الخيرِ فيها على السِّرِّ والنَّجْوَى لِتَعَلُّقِها بِهَيْبَةِ النَّاسِ وكَرَامَتِهِمْ وهي : الصَّدَقَةُ، والمعْرُوفُ، والإِصْلاحُ بَيْنَ الناسِ ، قالَ تعالَى :(لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً).

                              أيها المسلمونَ : وَمِنَ الأمانةِ في الكَلِمَةِ الشُّكْرُ والثَّناءُ ، فالشُّكْرُ على صَنَائِعِ المعروفِ ، والثَّنَاءُ علَى مَعَالِي الأُمُورِ يُوقِظُ الهِمَمَ ، ويعززُ رُوحَ السَّعْيِ والعَزْمِ والإقْدَامِ.

                              قالَ تعالَى في الثَّنَاءِ علَى سيدنا إبراهِيمَ - عليه السلام - والتَّنْويِهِ بِخِصَالِهِ ومَوَاهِبِهِ التي جَعَلَتْهُ إِمَامَاً قُدْوَةً :(إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً للهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ).

                              وقال رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في مَعْرِضِ الثَّنَاءِ علَى صَنائِعِ سيدِنَا أبِي بَكْرٍ -رضي الله عنه- والتَّنْوِيهِ بِأَيَادِيهِ البَيضَاءِ :« إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَىَّ فِى نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ أَبِى بَكْرِ بْنِ أَبِى قُحَافَةَ ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنَ النَّاسِ خَلِيلاً لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً ، وَلَكِنْ خُلَّةُ الإِسْلاَمِ أَفْضَلُ ، سُدُّوا عَنِّى كُلَّ خَوْخَةٍ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ أَبِى بَكْرٍ ».

                              وما أَحْسَنَ قَوْلَ الشَّاعِرِ :

                              لَأَشْكُرَنَّكَ مَعْرُوفَاً هَمَمْتَ بِــهِ إنَّ اهْتِمَامَكَ بِالمعْرُوفِ مَعْرُوفُ
                              ولا أَلُومُكَ إنْ لَمْ يُمْضِـهِ قَـدَرٌ فَالشَّيْءُ بالقَدَرِ المحْتُومِ مَصْرُوفُ

                              عبادَ اللهِ : ومِنْ صُوَرِ أداءِ الأمانةِ في الكَلِمَةِ الشهادةُ. لقد شُرِعَتِ الشَّهادَةُ لإظهارِ الحقِّ، ولذا ينبغي ابْتِدَاءً ألا نَكْتُمَها، وأنْ نَتَحَرَّى فيها الحقَّ حِينَ الإِدْلاءِ بِها دُونَ مُحَاباةٍ لِأَحدٍ، قال تعالى : (وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ).

                              وعَنْ أَبِى بَكْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- :« أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟» ثَلاَثًا قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ . قَالَ :« الإِشْرَاكُ باللهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ». وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا ، فَقَالَ :« أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ». قَالَ : فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا : لَيْتَهُ سَكَتَ.

                              عبادَ اللهِ: ومِنَ الأمانةِ في الكَلِمَةِ قَولُ الحقِّ ، فقَوْلُ الحقِّ فَضْلاً عَنْ كَوْنِهِ شَجَاعَةً هُو تَمكينٌ للحقِّ وإِقْرَارٌ له حتى يَعُمَّ الخَيْرُ أَرْجاءَ الأرضِ، وهو في الوقتِ نَفْسِهِ تَعْبِيرٌ عَمِيقٌ عن مَدَى الشعورِ بالمسؤوليةِ ومَدَى الرَّغْبَةِ في أن تَنْجُوَ الأُمَّةُ كُلُّها مِنْ عَواقِبِ السُّكُوتِ عن قَوْلِ الحقِّ ، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ-رضي الله عنه- قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-:« لاَ يَحْقِرْ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ » قَالُوا: يَارَسُولَ اللهِ كَيْفَ يَحْقِرُ أَحَدُنَا نَفْسَهُ؟ قَالَ :« يَرَى أَمْرًا للهِ عَلَيْهِ فِيهِ مَقَالٌ ثُمَّ لاَ يَقُولُ فِيهِ، فَيَقُولُ اللهُ -عزوجل- لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : مَا مَنَعَكَ أَنْ تَقُولَ فِي كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: خَشْيَةُ النَّاسِ ، فَيَقُولُ: فَإِيَّايَ كُنْتَ أَحَقَّ أَنْ تَخْشَى».

                              أيها المؤمنون: إنَّ صُوَرَ أداءِ الأمانةِ في الكَلِمَةِ كثيرةٌ ، وجميعُ هذه الصُوَرِ تُؤَكِّدُ على شَأْنِ الكَلِمَةِ وخُطُورَةِ الخِيَانَةِ فيها، ولِذا يجب على الناسِ بصفةٍ عامَّةٍ ، وعلى حَمَلَةِ الأَقْلامِ وأصحابِ الكَلِمَةِ من الخُطَباءِ والشُّعَرَاءِ والكُتَّابِ والمفكرينَ والمثقفينَ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ أن يتقُوا اللهَ في الكَلِمَةِ، وأن يُرَاعُوا حُرْمَتَها وكَرَامَتَها، وأن يجعلُوها أداةَ بِناءٍ .

                              أقولُ قولِي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكمْ .

                              الخطبة الثانية


                              الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمينَ ، وأَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ مُوَفِّقُ العامِلِينَ، وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَفْضَلُ المخْلُوقِينَ وأَكْرَمُ السَّابِقِينَ والَّلاحِقِينَ، اللهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ وبَارِكْ على سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ والتَّابِعِينَ ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ.

                              أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ ورَاقِبُوهُ في أَقْوَالِكُمْ وأَفْعَالِكُمْ ، فإنَّهُ مَا يَتَكَلَّمُ الإنسانُ كَلِمَةً ولا يَتَلَفَّظُ لَفْظَةً إلاَّ لَدَيْهِ مَلَكٌ يَرْقُبُ قَوْلَهُ ويَكْتُبُ عَمَلَهُ، قال تعالى:(مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ).

                              هَذَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ أُمِرْتُمْ بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى :(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَاجْمَعِ اللَّهُمَّ أُمَّتَنَا عَلَى الْخَيْرِ، وَسَدِّدْ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ خُطَاهُمْ، اللَّهُمَّ أصلحْ لنا دينَنَا الذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا وأصلحْ لنا دُنيانَا الَّتِي فيهَا معاشُنَا وأصلحْ لنا آخِرَتَنَا التي فيها معادُنَا، واجعلِ الحياةَ زيادةً لنا في كُلِّ خَيْرٍ واجعلِ الموتَ راحةً لنا منْ كُلِّ شَرٍّ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، اللَّهُمَّ لاَ تَدَعْ لَنَا ذَنْبًا إِلاَّ غَفَرْتَهُ، وَلاَ دَيْنًا إِلاَّ قَضَيْتَهُ، وَلاَ مَرِيضًا إِلاَّ شَفَيْتَهُ وَعَافَيْتَهُ، وَلاَ حَاجَةً مِنْ حَوَائِجِ الدُّنْيَا إِلاَّ قَضَيْتَهَا وَيَسَّرْتَهَا لَنَا يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ، وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ...


                              أذكروا الله العظيم يذكركم واستغفروه يغفر لكم ، وأقم الصلاة ...



                              *****************************************


                              www.iacad.gov.ae














                              تعليق

                              • Mayada oulabi
                                !! عضوية الإمتياز !!
                                • Aug 2010
                                • 3799

                                اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، اللَّهُمَّ لاَ تَدَعْ لَنَا ذَنْبًا إِلاَّ غَفَرْتَهُ، وَلاَ دَيْنًا إِلاَّ قَضَيْتَهُ، وَلاَ مَرِيضًا إِلاَّ شَفَيْتَهُ وَعَافَيْتَهُ، وَلاَ حَاجَةً مِنْ حَوَائِجِ الدُّنْيَا إِلاَّ قَضَيْتَهَا وَيَسَّرْتَهَا لَنَا يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ، وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ...

                                لا إاله الاّ الله
                                محمد رسول الله
                                اللَّهُمَّ عَامِلْنا بِإِحْسَانِكَ، وَتَدَارَكْنَا بِفَضْلِكَ وَامْتِنَانِكَ، وَتَوَلَّنَا بِرَحْمَتِكَ وَغُفْرَانِكَ، وَاجْعَلْنا مِنْ عِبَادِكَ الَّذِينَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ

                                تعليق

                                مواضيع شائعة

                                تقليص

                                لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

                                جاري المعالجة..
                                X