البــلاء والابتـــلاء
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا الله تعالى ـ أيها المسلمون ـ حق التقوى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.
معاشر المؤمنين، إن الله جل جلاله جعل الابتلاء سنة ليمحص إيمان المؤمنين الأتقياء، ويميز بين الصادقين والكاذبين الأدعياء، الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ.
الابتلاء طريق شاق سلكه حتى الأنبياء، ناح فيه نوح، ورمي في النار إبراهيم الخليل، وأضجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بدراهم معدودة، وذهبت من شدة البكاء عينا يعقوب، وذبح الحصور يحيى، وضني بالبلاء وطول المرض أيوب، وأدميت قدما رسولنا، صلى الله وسلم عليهم جميعا، فإذا ابتلي المسلم فليحمد الله رب الأرض والسماء، فإن هذا طريق الأنبياء والصالحين والأتقياء، وفي الحديث الصحيح: ((أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل)).
وقد قضى الله العليم الحكيم أن العسر يتبعه يسر، نعم إنّ الشدائد والبلايا مهما تعاظمت وامتدت فإنها لا تدوم على صاحبها، بل إنها عندما تشتد وتظلم وتطول فإن هذا دليل على قرب زوالها وانفراجها، فيأتي العون من الله والإحسان عند ذروة الشدة والامتحان، وهكذا نهاية كل ليل غاسق فجر صادق.
عباد الله، الابتلاء سنة من سنن الله عز وجل، يبتلي الله عبده لعدة أمور، بل لعدة فوائد ومصالح لهذا العبد المبتلى وإن كان لا يشعر بها.
أولها: الرفعة في الدنيا والرفعة في الآخرة، فإن المبتلَين أعظم الناس رفعة حيث يكونون مبتلَين في أول الطريق، فإذا صبروا واحتسبوا رفع الله ذكرهم أبد الدهر.
ثانيا: التربية، فإن الله تعالى يربي القلوب بالابتلاء حتى تخلص لله وتصدق معه.
ثالثا: تحقيق العبودية، فإن كثيرا من الناس إذا ابتلي سئم وتضجر ونكص على عقبيه، وارتبط بالأسباب ونسي المسبب سبحانه وتعالى، نكص على عقبيه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين.
رابعا: من فوائد الابتلاء الأجر والمثوبة عند الله جل جلاله، وهو الذي لا تضيع عنده الودائع إذا ضاعت عند الناس، وهو الذي لا يخسر من يعامله بل يستفيد، وهو الذي لا يهزم من يتولاه بل ينتصر.
فالزم يديك بحبل الله معتصما فإنه الركن إن خانتك أركان
معاشر الكرام، ومما يخفف الابتلاء ـ كما ذكر ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله ـ أن تؤمن بالقضاء والقدر، فهذا الصحابي عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال لابنه لما حضرته الوفاة: (يا بني، عليك بالإيمان بالقضاء والقدر، فوالذي نفسي بيده إن لم تؤمن بالقضاء والقدر لا ينفعك عملك أبدا)، وفي الحديث الصحيح قال عليه الصلاة والسلام: ((واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك))؛ لذلك فإن أول ما يخفف الابتلاء والمصيبة قضية الإيمان بالقضاء والقدر.
ومما يخفف الابتلاء ـ يا عباد الله ـ أن تعرف أن الذي أصابك إنما هو قليل بالنسبة لما أعطاك الله، ماذا فقدت من أصابعك؟! هل فقدت إصبعا؟ لقد أبقى الله عددا كبيرا غيرها، فكيف إذا كانت أصابعك كلها موجودة وسليمة ولله الحمد؟! هل فقدت قدمك أو جزءا منها؟! معك قدم أخرى ولله الحمد، فكيف بالذي قدماه سليمتان يمشي بهما بكل يسر؟! عيناه أذناه لسانه شفتاه. اللهم لا نحصي ثناء وحمدا لك.
وبشرى لكل من ابتلي بمرض أو هم وغمّ وكرب وسائر أصناف البلاء بشرى له إن هو صبر وصابر بأنه سيلقى الله وما عليه خطيئة. يا لله من جائزة عظيمة! ويا له من سلوان ينزل على قلب المصاب بردا وسلاما! هذا جزء من عقيدتنا بخالقنا آمنا به وصدقنا ما أخبر به المصطفى .
أيها الإخوة الكرام، ومما يخفف وقع البلاء على النفس أن تنظر لمن حولك من الناس ممن هم مبتلَون ومصابون بأنواع البلاء تفوق بكثير ما حلّ بك، "وفي كل واد بنو سعد"، فلا تخلو أي دار وأي بيت من نوع من أنواع البلاء، وإذا أردت أن تعرف مقدار فضل الله عليك في صحتك ومالك وأهلك ووطنك فانظر إلى حال إخوانك المسلمين في غزة ولا تعليق، نعم ولا تعليق. إن التسلي بمصائب الناس وتذكّر ما بهم من محن ورزايا، إن ذلك مما يدفع أو يخفف الكرب على النفوس.
أيها المسلم، احمد الله تعالى إذا أصبت في نفسك أو مالك أو ولدك ولم تصب في دينك، فإن المصيبة والفتنة في الدين هي أم المصائب، لا جابر لها إلا التوبة والعودة الصادقة إلى الحي القيوم.
واسمعوا ـ عباد الله ـ إلى أولئك الصالحين في قصص عجيبة عذبة جميلة، ذكرها الله في كتابه رفعة وتخليدا لذكرهم، قال تعالى عن نبيه أيوب عليه السلام لما أصابه المرض العضال في سنين طوال: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، أصيب عليه السلام بمرض في جسده، أتدرون كم استمر معه ذلك المرض؟ ثمانية عشر عاما، ثمانية عشر عاما لا يستسيغ طعما للطعام والشراب ولا يهنأ بنوم، فيا من أصيب في بدنه وجسده، ويا من يتألم من ألم في جسده، إليك مثلا كله صبر، كله إيمان ويقين: أيوب عليه السلام أصيب بمرض في جسده، مكث ثمانية عشر عاما لا يهنأ براحة، فقالت له زوجته: لِمَ لا تشتكي إلى الله وأنت نبي من أنبيائه فإنه يكشف الضر؟! أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ، فقال: لا والله، لا أدعوه حتى تتساوى أيام صحتي وأيام ابتلائي، ولما سرى المرض في جسده وانتشر وكاد أن يصل إلى لسانه فرأى أيوب أنه سينقطع عن ذكر الله وتسبيحه وتهليله دعا ربه أرحم الراحمين بكل أدب وتوقير: مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، أنا المريض وبيدك الشفاء، فإن كنت ترى أني قد أصبحت في حال ترضى لي فيه بالعافية فعافني فأنت أرحم الراحمين، فأحب الأمر إلي ما أحببته أنت لي، فجاءه الفرج من الله: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ، ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ.
وانظروا ـ عباد الله ـ إلى يعقوب عليه السلام، ما أحسن صبره وإيمانه يوم أن قال: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ، ثم يقول: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ.
معاشر الأحبة، إن الابتلاء بالأمراض والمصائب إنما هو من الأقدار التي يقدرها الله على الناس، وهو سبحانه أعلم بهم، وأعلم بمدى تحملهم أو عدمه؛ لذلك جاء في الحديث القدسي: ((يقول الله تعالى: إني أعلم بعبادي، إن من عبادي من لو ابتليته لما استطاع ولما صبر، ومنهم من لو عافيته لما شكر، فأنا أصرف عبادي كيف أشاء))، له الحكمة البالغة سبحانه وبحمده.
فيا أيها المبتلى، أبشر فإنّ الله يحبك ويريد لك درجة عالية في الجنة لم تبلغها بأعمال صالحة، ولكن بصبرك على هذا الابتلاء واحتساب الأجر عند فاطر الأرض والسماء، فاصبر واحتسب فإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين...
الخطبة الثانية
أما بعد: معاشر المؤمنين، إن الناس يتقلبون في هذه الدنيا ما بين خير وشر ونفع وضر، وليس لهم في أيام الرخاء والسرور أنفع من الحمد والشكر لواهب النعم سبحانه وبحمده، ولا في أيام المحن والبلاء أنفع من الصبر والدعاء، وقد اقتضت حكمة الله أن ما من ليل مظلم إلا وبعده صباح مشرق مضيء، وما من شدة وضيق إلا ويعقبه فرج وخير، وأبلغ من ذلك قول الله: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، وعن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله : ((واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا))، ويقول عمر بن الخطاب رضي عنه وأرضاه: (مهما ينزل بامرئ شدة إلا جعل الله له بعدها فرجا، وإنه لن يغلب عسر يسرين).
عباد الله، والكرب إذا اشتدّ وعظم وتناهى وحصل للعبد اليأس من كشفه من جهة المخلوقين تعلق قلبه بالله وحده، وهذه هي حقيقة التوكل على الله، وهو من أكبر الأسباب التي تطلب بها الحوائج، فإن الله يكفي من توكل عليه، سئل رسول الله عن معنى قول الله: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ، فقال: ((إن من شأنه أن يغفر ذنبا، ويكشف كربا، ويرفع أقواما، ويضع آخرين)).
أيها المبارك، إن من علاج المصائب والبلايا الاسترجاع: "إنا لله وإنا إليه راجعون"، كما قال سبحانه وتعالى: وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وفي هذا يقول رسولنا الكريم : ((ما من أحد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها، إلا أجاره الله في مصيبته وأخلف له خيرا)).
كذلك أن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
وتذكر ـ أيها المبارك ـ أن المؤمن أمره كله له خير إن صبر واحتسب، والله عز وجل يبتلي العبد وهو يحبه ليسمع منه تضرعه ودعاءه ودوام قرعه لبابه، وإن كثيرا من الناس كانوا في غفلة عن ربهم وخالقهم، فلما أصابهم البلاء رجعوا إلى الله وإلى بيوت الله وإلى كتاب الله، أليس بلاء الله لهم كان رحمة بهم؟!
أيها المبتلى بأي نوع من البلاء، اصبر واحتسب، فإن الله أراد لك ذلك وقدّره عليه، فارض بما قدّر الله تعالى.
أسأل الله عز وجل أن يمتعنا جميعا بالصحة والعافية، وأن يجعلها في طاعته، اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبدا ما أبقيتنا، اللهم شافِ منا كل مريض، وعاف كل مبتلى...
********************************************
خطبة اليوم لفضيلة الشيخ : فيصل بن محمد العواسي
تعليق