الأشهــر الحــرم وبـدع رجب
إن الحمدَ لله نحمدُه ونستعينهُ ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيآت أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صَلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
إخوة الإسلامِ: والمؤمنُ الحقّ هو الذي يُعظمُ شعائِرَ اللهِ، يمتثلُ الأوامرَ ويجتنبُ النواهي، ويسارعُ إلى الخيراتِ، ويقومُ بالواجبات، ويحرصُ على فعلِ المستحبّاتِ، ويكره الفسوقَ والعصيانَ، ويتجنّبُ المحرماتِ، ويجاهدُ نفسَه على البعدِ عن المكروهات.
والمسلمُ الحقُّ هو الذي يحرّمُ ما حرّمَ اللهُ، ويعظِّمُ ما عظَّمَه اللهُ، ومما عظَّم اللهُ الأشهرُ الحُرم، فما هي الأشهرُ الحُرم؟ وكيف تعظَّم؟.
معاشرَ المسلمينَ: وأنتم اليومَ في واحدٍ من هذه الأشهرِ الحُرمِ، وهو رجبُ الفرد؛ والأشهرُ الحرمُ في كتاب الله أربعة: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب؛ وإليها أشار القرآنُ بقوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)
إن عدداً من المسلمينَ قد لا يعلمونَ هذه الأشهرَ الحُرمَ، وعدداً آخَر قد يعلمونها ولكن لا يُعظمونها كما أمرَ اللهُ، ولقد كانت العربُ في جاهليتها تُعظمُ هذه الأشهرَ الحرمَ، فلا تسفكُ فيها دماً ولا تأخذُ فيها بثأرٍ؛ وإن كانت تتحايلُ أحياناً فتُنْسِئ الأشهرَ، وتجعلُ من الشهرِ الحرامِ حلالاً والعكس؛ وجاء الإسلامُ ليؤكدَ حُرمةَ الأشهرِ الحرمِ، وينهى عن التلاعبِ فيها تقديماً أو تأخيراً.
ووقفَ رسولُ الهدى -صلى الله عليه وسلم- بمكةَ خطيباً في حجة الوداع ليؤكد حُرمةَ الزمانِ وحرمةَ المكان، وحُرمةَ الدماءِ والأموالِ والأعراضِ ويقول: "إنَّ دماءكُم وأموالَكُم وأعراضَكُم عليكم حرامٌ كحرمةِ يومِكُم هذا، في شهرِكُم هذا، في بَلدِكُم هذا، وستلقونَ ربَّكُم فيسالُكم عن أعمالِكُم، ألا لا ترجِعوا بعدي ضُلاّلاً يضربُ بعضُكم رقابَ بعضٍ، ألا هل بلّغتُ؟ ألا ليبلِّغ الشاهدُ الغائبَ منكم، فلعلّ منَ يَبْلُغه يكونُ أوعى له من بعضِ من يسمعه" رواه أحمد والبخاري ومسلم.
أيّها المسلمونَ: إن تعظيم شعائر اللهِ، وتقديرَ ما حرّمَ اللهُ من تقوى القلوبِ، (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)
وإذا كان المسلمُ مطالباً على الدوامِ بتعظيمِ حرماتِ اللهِ، فإن مطالبَته بذلك في الأشهرِ الحرمِ آكدُ، ولذا قال تعالى: (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)، أي: في هذه الأشهرِ الحرمِ، لأنه آكدُ وأبلغُ في الإثمِ من غيرِها.
ويُروى عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) أي: في الأشهرِ كلِّها، ثم اختَصَّ من بين ذلك أربعةَ أشهرٍ فجعلهنَّ حراماً وعظَّمَ حُرماتِهن، وجعل الذنبَ فيهنّ أعظم، والعملَ الصالحَ والأجرَ أعظم.
عبادَ الله: هل نُعظمُ هذه الأشهرَ الحُرم، وكم من المسلمينَ يُعظِّمُها! وتعظيمُها إنما يكون بعملِ الصالحاتِ المشروعةِ والبُعدِ عن المحرِّماتِ؛ وهل يكونُ أهلُ الجاهلية بكفرهِم وإثمِهِم وانحرافِهِم أكثرَ تعظيماً لحُرماتِ اللهِ من أهلِ الدِّينِ والحقِّ والفطرةِ السليمةِ؟.
إن كثيراً من المسلمينَ يُعظِّمون شهرَ الصيامِ، ويتقربونَ إلى الله فيه بالطاعاتِ، واجتناب المحرّمات، وذلك أمرٌ طيبٌ ومحمودٌ؛ ولكن كم مِنَ المسلمين يفعلُ ذلك في الأشهرِ الحُرم؟ كم نظلمُ أنفسَنا بارتكاب المعاصي وفعْلِ الآثامِ، ونحن منهيّونَ عن ذلك على الدَّوام، والنهيُ آكدُ في الأشهرِ الحُرمِ.
لقد كثُرِت المآثِمُ، وظهر الفسادُ في البَرِّ والبحرِ بما كسبت أيدي الناس، وتلاعبَ الشيطانُ بالناسِ وأضلَّهم عن صراطِ اللهِ المستقيم، فهذا صريعُ الشهواتِ، وذلكَ مفتونٌ بالشُّبهاتِ، وثالثٌ غافلٌ عن الأوامرِ الربّانيةِ، ورابعٌ غارقٌ في المحرَّمات، وخامسٌ لا يقتصرُ على إفسادِ نفسِه، بل يدعو غيرَه لاقترافِ المحرَّمات، ويحاولُ جهدَه خرقَ جدارِ الفضيلةِ، وتحطيمَ سياجِ الواجباتِ.
وبينَ هؤلاءِ وأولئكَ فئامٌ من المسلمين تعيشُ على تقليدِ الآخرين، وتتّبِعُ الموجاتِ، وصلاحُهم أو فسادُهم مربوطٌ بالآخرين؛ فلا إرادةَ لهم، ولا همةَ ترتفعُ بهم، رعاعٌ هَملٌ، يتبعونَ الناعقَ حيثُ صاحَ بهم، حتى وإن كان يقودُهم إلى الهاويةِ.
أما الذين ينظرونَ بنورِ اللهِ، ويهتدونَ بهدْي القرآن، ويقتدونَ بمحمدٍ عليه الصلاةُ والسلامُ، فأولئكَ يعلمونَ الحقَّ ويعملونَ به ويدعونَ الناسَ إليه، ويكرهونَ الباطلَ ويحذِّرون الناسَ منه؛ وهؤلاء -وإن قلّ عددُهم، واستحكمت غُربتُهم- فطوبى لهم! وموعدُهم وموعدُ غيرِهم يومَ التنادِ، وهناك الجزاءُ الحقُّ، وذلك يومُ التغابن.
إخوةَ الإيمانِ: وإذا كانَ يجدُر بنا في هذا الشهرِ الحرام أن نحاسبَ أنفسَنا، وأن نعَظِّم حُرماتِ الله؛ وأن نتقرّبَ إلى الله بطاعتهِ، فهل نتخذُ من ذلك وسيلةً لتربيةِ النفوسِ على طاعةِ الله ومحاسبته على الدَّوام.
عبادَ الله: وقد اقتضتْ حكمةُ اللهِ يومَ أن خلَقَنا واستخْلَفَنا في الأرض ألاّ نكون ملائكةً لا نعصي اللهَ أبداً، فقد يقعُ الذنبُ، وقد يُقصِّرُ العبدُ فيما أوجبَ اللهُ عليه؛ ولكن، هل تستمرُّ الغفلةُ؟ وهل يستمرِئُ المسلمُ المعصيةَ ويستمرُّ على الذنبِ؟.
إن الذكرى تنفعُ المؤمنين، والموعظةُ تنبهُ الغافلين، ومن في قلبه حياةٌ تتحركٌ هِمّتُه للخيرِ إذا دُعيَ إليه، ويخافُ من عقوبةِ الذنبِ إذا حُذِّرَ منه.
والناسُ في ارتكابِ المعاصي والذنوبِ على ثلاثةِ أصنافٍ، كما قال العلماءُ: صنفٌ من الذنبِ تائبٌ، موطنٌ لنفسِه على هجرانِ ذنبِه، لا يريدُ الرجوعَ إلى شيءٍ من سيئتِه وهذا هو المبُرِّز؛ وصنفٌ يذنبُ ثم يندمُ، ويذنبُ ويحزنُ، ويذنبُ ويبكي، هذا يُرجى له ويُخافُ عليه؛ وصنفٌ يذنبُ ولا يندمُ ولا يحزنُ، ويذنبُ ولا يبكي، فهذا الكائنُ الحائدُ عن طريقِ الجنةِ إلى النار.
يا أخ الإسلامِ: راجع نفسكَ، وتفكَّر في حالِكَ، وانظر في أيِّ الفئاتِ أنتَ، قال تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) . نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربّ العالمينَ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وليُّ الصالحينَ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، سيدُ الأولينَ والآخرينَ، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائرِ النبيينَ والمرسلينَ.
أيها المسلمون: وتعظيمُ الأشهرِ الحُرمِ لا يعني تخصيصَها بشيءٍ من العباداتِ لم يشرَعْه اللهُ، ولم يأذنْ به رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، فذلك خروجٌ عن السُّنةِ إلى البدعةِ، ونحنُ مأمورون بالاتباعِ لا الابتداع، وكلُّ شيءٍ ليسَ عليه أمرُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فهو رَدٌّ.
والشيطانُ يفرحُ بالبدعةِ أكثرَ من غيرِها، ويتلاعبُ بأصحابِ البدعِ حين يُضلُّهم عن العملِ الصالحِ على السيءِ، وتأمَّلُوا أثرَ البدعةِ في الحديثِ الذي رواه الإمامُ أحمدُ وغيرُه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما ابتدعَ قومٌ بدعةً إلا نزعَ اللهُ عنهم السُّنّةِ مثلَها" ذكره السيوطي في (الجامع الصغير) وحسّنه، وضعفه الألباني في (ضعيف الجامع الصغير).
وقد بيّن العلماءُ أن الشرائعَ أغذيةُ القلوبِ، فمتى اغتذت القلوبُ بالبدعِ لم يبقَ فيها فضلٌ للسُّننِ، فتكونُ بمنزلةِ من اغتُذي بالطعامِ الخبيثِ.
عبادَ الله: والناسُ في هذا ثلاثةُ أصنافٍ:
صنفٌ جاهلٌ مفرطٌ، لا يعرفُ سنّةً ولا بدعةً، بل هو مسرفٌ في المعاصي والذنوبِ حسبَ رغبةِ نفسِه ومتطلباتِ شهوتِه.
وصنفٌ قد أحدثَ من الطاعاتِ، وكلّفَ نفسَه ما لم يأذن به، فتراه يخصُّ زمناً بصلاةٍ أو صيامٍ أو عمرة، وليس له في ذلكَ مستندٌ شرعيٌّ، وهم أصحابُ البدع.
وصنفٌ ثالثٌ هم المعظمونَ لما عظّمه الله، والواقِفونَ عندَ حدودِ السنّةِ، والمُقْتَدونَ بهدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وأولئك أهلُ السُّنّةِ وأصحابُ المنهجِ الحقِّ، فلا يحيفونَ ولا يغلونَ، ولا إفراطَ ولا تفريط.
عبادَ الله: وفي شهرِ رجبَ بدعٌ أحدثتها الرجبيةُ، وليس عليها مستندٌ شرعي، ولابن حجرٍ رحمه الله رسالةٌ عنوانها (تبيين العجب بما وردَ في فضلِ رجب) وقد قال رحمه الله في هذه (الرسالة): لم يرد في فضل شهرِ رجبَ ولا في صيامِه ولا في صيامِ شيءٍ منه معيَّن، ولا في قيامِ ليلةٍ مخصوصةٍ منه حديثٌ صحيحٌ يصلحُ للحُجّةِ، ثم ساقَ رحمَه اللهُ عامةَ الأحاديثِ المرويةِ في ذلك مع بيان الحكمِ عليها.
وقال ابنُ رجب -رحمَه الله-: لم يصح في شهرِ رجبَ صلاةٌ مخصوصةٌ تختصّ به. وقال: لم يصح في فضلِ صومِ رجبَ بخصوصه شيءٌ عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أصحابه؛ ولذا فقد كرهَ السلفُ إفرادَ رجب بالصيام.
ومما ذكرهُ العلماءُ من بدعِ رجبَ:
1- صلاةُ الرغائبِ: وهي صلاةٌ تصلَّى في أوّلِ ليلةِ جمعةٍ من شهرِ رجب، وكلُّ ما وردَ فيها من أحاديثَ فهيَ موضوعةٌ، ولم يثبت منها شيءٌ عن رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا أثرٌ عن أصحابِه رضوانُ الله عليهم.
2- تخصيصُه بالصيام: وهو كذلك لم يرد، بل جاءَ أنّ عمرَ -رضي الله عنه- كان يضربُ أكفَّ المترجَّبينَ- أي الذين يصومونَ في رجب حتى يضعها في الطعامِ، ويقول: كُلوا؛ فإنَّ الجاهليةَ يُعظِّمون ذلك. أي شهرَ رجبَ.
3- وكذلك العمرةُ في رجب، فليسَ لها مَزيّةٌ على غيرهَا، وليس في هَدْي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ما يرغبُ في ذلك بخصوصها.
4- وفي شهرِ رجبَ نسيكةٌ يسمّونها (العَتيرة) وهي تذبحُ في رجب، وقد اختلفَ العلماءُ فيها بين قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا فَرْعَ ولا عَتيرةَ) متفق عليه؛ وبين قوله (العتيرةُ حقٌّ) النسائي وحسَّنه الألباني؛ ووجهوها على العتيرةِ المشروعةِ التي تذبحُ قربةً لله لا لتعظيمِ رجب، والمنهيّ عنها هي التي أبطلها الإسلامُ وهي عتيرةُ الجاهليةِ.
5- ومن الأمورِ المحدَثةِ في رجب ما يعتقده بعضُ المسلمينَ من تعظيمِ ليلةِ السابعِ والعشرينَ، ويعتقدونَ أن في هذه الليلةِ حصلَ الإسراءُ والمعراج، ولم يأتِ نصٌّ صريحٌ في ذلك، ولا نُقلَ عن رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا عن أصحابه تعظيمُ هذه الليلةِ وتخصيصُها بشيءٍ من الصلاةِ أو الذكرِ أو الأورادِ، أو نحوها من العبادات.
عبادَ الله: عظِّموا ما عظَّم اللهُ ورسولُه، وعليكم بالسُّنّةِ، وإياكم ومُحدَثاتِ الأمورِ، فإن كلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار...
************************************************** *
خطبة اليوم لفضيلة الشيخ : سليمان بن حمد العودة
إن الحمدَ لله نحمدُه ونستعينهُ ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيآت أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صَلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
إخوة الإسلامِ: والمؤمنُ الحقّ هو الذي يُعظمُ شعائِرَ اللهِ، يمتثلُ الأوامرَ ويجتنبُ النواهي، ويسارعُ إلى الخيراتِ، ويقومُ بالواجبات، ويحرصُ على فعلِ المستحبّاتِ، ويكره الفسوقَ والعصيانَ، ويتجنّبُ المحرماتِ، ويجاهدُ نفسَه على البعدِ عن المكروهات.
والمسلمُ الحقُّ هو الذي يحرّمُ ما حرّمَ اللهُ، ويعظِّمُ ما عظَّمَه اللهُ، ومما عظَّم اللهُ الأشهرُ الحُرم، فما هي الأشهرُ الحُرم؟ وكيف تعظَّم؟.
معاشرَ المسلمينَ: وأنتم اليومَ في واحدٍ من هذه الأشهرِ الحُرمِ، وهو رجبُ الفرد؛ والأشهرُ الحرمُ في كتاب الله أربعة: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب؛ وإليها أشار القرآنُ بقوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)
إن عدداً من المسلمينَ قد لا يعلمونَ هذه الأشهرَ الحُرمَ، وعدداً آخَر قد يعلمونها ولكن لا يُعظمونها كما أمرَ اللهُ، ولقد كانت العربُ في جاهليتها تُعظمُ هذه الأشهرَ الحرمَ، فلا تسفكُ فيها دماً ولا تأخذُ فيها بثأرٍ؛ وإن كانت تتحايلُ أحياناً فتُنْسِئ الأشهرَ، وتجعلُ من الشهرِ الحرامِ حلالاً والعكس؛ وجاء الإسلامُ ليؤكدَ حُرمةَ الأشهرِ الحرمِ، وينهى عن التلاعبِ فيها تقديماً أو تأخيراً.
ووقفَ رسولُ الهدى -صلى الله عليه وسلم- بمكةَ خطيباً في حجة الوداع ليؤكد حُرمةَ الزمانِ وحرمةَ المكان، وحُرمةَ الدماءِ والأموالِ والأعراضِ ويقول: "إنَّ دماءكُم وأموالَكُم وأعراضَكُم عليكم حرامٌ كحرمةِ يومِكُم هذا، في شهرِكُم هذا، في بَلدِكُم هذا، وستلقونَ ربَّكُم فيسالُكم عن أعمالِكُم، ألا لا ترجِعوا بعدي ضُلاّلاً يضربُ بعضُكم رقابَ بعضٍ، ألا هل بلّغتُ؟ ألا ليبلِّغ الشاهدُ الغائبَ منكم، فلعلّ منَ يَبْلُغه يكونُ أوعى له من بعضِ من يسمعه" رواه أحمد والبخاري ومسلم.
أيّها المسلمونَ: إن تعظيم شعائر اللهِ، وتقديرَ ما حرّمَ اللهُ من تقوى القلوبِ، (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)
وإذا كان المسلمُ مطالباً على الدوامِ بتعظيمِ حرماتِ اللهِ، فإن مطالبَته بذلك في الأشهرِ الحرمِ آكدُ، ولذا قال تعالى: (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)، أي: في هذه الأشهرِ الحرمِ، لأنه آكدُ وأبلغُ في الإثمِ من غيرِها.
ويُروى عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) أي: في الأشهرِ كلِّها، ثم اختَصَّ من بين ذلك أربعةَ أشهرٍ فجعلهنَّ حراماً وعظَّمَ حُرماتِهن، وجعل الذنبَ فيهنّ أعظم، والعملَ الصالحَ والأجرَ أعظم.
عبادَ الله: هل نُعظمُ هذه الأشهرَ الحُرم، وكم من المسلمينَ يُعظِّمُها! وتعظيمُها إنما يكون بعملِ الصالحاتِ المشروعةِ والبُعدِ عن المحرِّماتِ؛ وهل يكونُ أهلُ الجاهلية بكفرهِم وإثمِهِم وانحرافِهِم أكثرَ تعظيماً لحُرماتِ اللهِ من أهلِ الدِّينِ والحقِّ والفطرةِ السليمةِ؟.
إن كثيراً من المسلمينَ يُعظِّمون شهرَ الصيامِ، ويتقربونَ إلى الله فيه بالطاعاتِ، واجتناب المحرّمات، وذلك أمرٌ طيبٌ ومحمودٌ؛ ولكن كم مِنَ المسلمين يفعلُ ذلك في الأشهرِ الحُرم؟ كم نظلمُ أنفسَنا بارتكاب المعاصي وفعْلِ الآثامِ، ونحن منهيّونَ عن ذلك على الدَّوام، والنهيُ آكدُ في الأشهرِ الحُرمِ.
لقد كثُرِت المآثِمُ، وظهر الفسادُ في البَرِّ والبحرِ بما كسبت أيدي الناس، وتلاعبَ الشيطانُ بالناسِ وأضلَّهم عن صراطِ اللهِ المستقيم، فهذا صريعُ الشهواتِ، وذلكَ مفتونٌ بالشُّبهاتِ، وثالثٌ غافلٌ عن الأوامرِ الربّانيةِ، ورابعٌ غارقٌ في المحرَّمات، وخامسٌ لا يقتصرُ على إفسادِ نفسِه، بل يدعو غيرَه لاقترافِ المحرَّمات، ويحاولُ جهدَه خرقَ جدارِ الفضيلةِ، وتحطيمَ سياجِ الواجباتِ.
وبينَ هؤلاءِ وأولئكَ فئامٌ من المسلمين تعيشُ على تقليدِ الآخرين، وتتّبِعُ الموجاتِ، وصلاحُهم أو فسادُهم مربوطٌ بالآخرين؛ فلا إرادةَ لهم، ولا همةَ ترتفعُ بهم، رعاعٌ هَملٌ، يتبعونَ الناعقَ حيثُ صاحَ بهم، حتى وإن كان يقودُهم إلى الهاويةِ.
أما الذين ينظرونَ بنورِ اللهِ، ويهتدونَ بهدْي القرآن، ويقتدونَ بمحمدٍ عليه الصلاةُ والسلامُ، فأولئكَ يعلمونَ الحقَّ ويعملونَ به ويدعونَ الناسَ إليه، ويكرهونَ الباطلَ ويحذِّرون الناسَ منه؛ وهؤلاء -وإن قلّ عددُهم، واستحكمت غُربتُهم- فطوبى لهم! وموعدُهم وموعدُ غيرِهم يومَ التنادِ، وهناك الجزاءُ الحقُّ، وذلك يومُ التغابن.
إخوةَ الإيمانِ: وإذا كانَ يجدُر بنا في هذا الشهرِ الحرام أن نحاسبَ أنفسَنا، وأن نعَظِّم حُرماتِ الله؛ وأن نتقرّبَ إلى الله بطاعتهِ، فهل نتخذُ من ذلك وسيلةً لتربيةِ النفوسِ على طاعةِ الله ومحاسبته على الدَّوام.
عبادَ الله: وقد اقتضتْ حكمةُ اللهِ يومَ أن خلَقَنا واستخْلَفَنا في الأرض ألاّ نكون ملائكةً لا نعصي اللهَ أبداً، فقد يقعُ الذنبُ، وقد يُقصِّرُ العبدُ فيما أوجبَ اللهُ عليه؛ ولكن، هل تستمرُّ الغفلةُ؟ وهل يستمرِئُ المسلمُ المعصيةَ ويستمرُّ على الذنبِ؟.
إن الذكرى تنفعُ المؤمنين، والموعظةُ تنبهُ الغافلين، ومن في قلبه حياةٌ تتحركٌ هِمّتُه للخيرِ إذا دُعيَ إليه، ويخافُ من عقوبةِ الذنبِ إذا حُذِّرَ منه.
والناسُ في ارتكابِ المعاصي والذنوبِ على ثلاثةِ أصنافٍ، كما قال العلماءُ: صنفٌ من الذنبِ تائبٌ، موطنٌ لنفسِه على هجرانِ ذنبِه، لا يريدُ الرجوعَ إلى شيءٍ من سيئتِه وهذا هو المبُرِّز؛ وصنفٌ يذنبُ ثم يندمُ، ويذنبُ ويحزنُ، ويذنبُ ويبكي، هذا يُرجى له ويُخافُ عليه؛ وصنفٌ يذنبُ ولا يندمُ ولا يحزنُ، ويذنبُ ولا يبكي، فهذا الكائنُ الحائدُ عن طريقِ الجنةِ إلى النار.
يا أخ الإسلامِ: راجع نفسكَ، وتفكَّر في حالِكَ، وانظر في أيِّ الفئاتِ أنتَ، قال تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) . نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربّ العالمينَ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وليُّ الصالحينَ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، سيدُ الأولينَ والآخرينَ، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائرِ النبيينَ والمرسلينَ.
أيها المسلمون: وتعظيمُ الأشهرِ الحُرمِ لا يعني تخصيصَها بشيءٍ من العباداتِ لم يشرَعْه اللهُ، ولم يأذنْ به رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، فذلك خروجٌ عن السُّنةِ إلى البدعةِ، ونحنُ مأمورون بالاتباعِ لا الابتداع، وكلُّ شيءٍ ليسَ عليه أمرُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فهو رَدٌّ.
والشيطانُ يفرحُ بالبدعةِ أكثرَ من غيرِها، ويتلاعبُ بأصحابِ البدعِ حين يُضلُّهم عن العملِ الصالحِ على السيءِ، وتأمَّلُوا أثرَ البدعةِ في الحديثِ الذي رواه الإمامُ أحمدُ وغيرُه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما ابتدعَ قومٌ بدعةً إلا نزعَ اللهُ عنهم السُّنّةِ مثلَها" ذكره السيوطي في (الجامع الصغير) وحسّنه، وضعفه الألباني في (ضعيف الجامع الصغير).
وقد بيّن العلماءُ أن الشرائعَ أغذيةُ القلوبِ، فمتى اغتذت القلوبُ بالبدعِ لم يبقَ فيها فضلٌ للسُّننِ، فتكونُ بمنزلةِ من اغتُذي بالطعامِ الخبيثِ.
عبادَ الله: والناسُ في هذا ثلاثةُ أصنافٍ:
صنفٌ جاهلٌ مفرطٌ، لا يعرفُ سنّةً ولا بدعةً، بل هو مسرفٌ في المعاصي والذنوبِ حسبَ رغبةِ نفسِه ومتطلباتِ شهوتِه.
وصنفٌ قد أحدثَ من الطاعاتِ، وكلّفَ نفسَه ما لم يأذن به، فتراه يخصُّ زمناً بصلاةٍ أو صيامٍ أو عمرة، وليس له في ذلكَ مستندٌ شرعيٌّ، وهم أصحابُ البدع.
وصنفٌ ثالثٌ هم المعظمونَ لما عظّمه الله، والواقِفونَ عندَ حدودِ السنّةِ، والمُقْتَدونَ بهدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وأولئك أهلُ السُّنّةِ وأصحابُ المنهجِ الحقِّ، فلا يحيفونَ ولا يغلونَ، ولا إفراطَ ولا تفريط.
عبادَ الله: وفي شهرِ رجبَ بدعٌ أحدثتها الرجبيةُ، وليس عليها مستندٌ شرعي، ولابن حجرٍ رحمه الله رسالةٌ عنوانها (تبيين العجب بما وردَ في فضلِ رجب) وقد قال رحمه الله في هذه (الرسالة): لم يرد في فضل شهرِ رجبَ ولا في صيامِه ولا في صيامِ شيءٍ منه معيَّن، ولا في قيامِ ليلةٍ مخصوصةٍ منه حديثٌ صحيحٌ يصلحُ للحُجّةِ، ثم ساقَ رحمَه اللهُ عامةَ الأحاديثِ المرويةِ في ذلك مع بيان الحكمِ عليها.
وقال ابنُ رجب -رحمَه الله-: لم يصح في شهرِ رجبَ صلاةٌ مخصوصةٌ تختصّ به. وقال: لم يصح في فضلِ صومِ رجبَ بخصوصه شيءٌ عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أصحابه؛ ولذا فقد كرهَ السلفُ إفرادَ رجب بالصيام.
ومما ذكرهُ العلماءُ من بدعِ رجبَ:
1- صلاةُ الرغائبِ: وهي صلاةٌ تصلَّى في أوّلِ ليلةِ جمعةٍ من شهرِ رجب، وكلُّ ما وردَ فيها من أحاديثَ فهيَ موضوعةٌ، ولم يثبت منها شيءٌ عن رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا أثرٌ عن أصحابِه رضوانُ الله عليهم.
2- تخصيصُه بالصيام: وهو كذلك لم يرد، بل جاءَ أنّ عمرَ -رضي الله عنه- كان يضربُ أكفَّ المترجَّبينَ- أي الذين يصومونَ في رجب حتى يضعها في الطعامِ، ويقول: كُلوا؛ فإنَّ الجاهليةَ يُعظِّمون ذلك. أي شهرَ رجبَ.
3- وكذلك العمرةُ في رجب، فليسَ لها مَزيّةٌ على غيرهَا، وليس في هَدْي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ما يرغبُ في ذلك بخصوصها.
4- وفي شهرِ رجبَ نسيكةٌ يسمّونها (العَتيرة) وهي تذبحُ في رجب، وقد اختلفَ العلماءُ فيها بين قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا فَرْعَ ولا عَتيرةَ) متفق عليه؛ وبين قوله (العتيرةُ حقٌّ) النسائي وحسَّنه الألباني؛ ووجهوها على العتيرةِ المشروعةِ التي تذبحُ قربةً لله لا لتعظيمِ رجب، والمنهيّ عنها هي التي أبطلها الإسلامُ وهي عتيرةُ الجاهليةِ.
5- ومن الأمورِ المحدَثةِ في رجب ما يعتقده بعضُ المسلمينَ من تعظيمِ ليلةِ السابعِ والعشرينَ، ويعتقدونَ أن في هذه الليلةِ حصلَ الإسراءُ والمعراج، ولم يأتِ نصٌّ صريحٌ في ذلك، ولا نُقلَ عن رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا عن أصحابه تعظيمُ هذه الليلةِ وتخصيصُها بشيءٍ من الصلاةِ أو الذكرِ أو الأورادِ، أو نحوها من العبادات.
عبادَ الله: عظِّموا ما عظَّم اللهُ ورسولُه، وعليكم بالسُّنّةِ، وإياكم ومُحدَثاتِ الأمورِ، فإن كلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار...
************************************************** *
خطبة اليوم لفضيلة الشيخ : سليمان بن حمد العودة
تعليق